الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

43/06/07

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - التنبيه الأول ( استصحاب القهقرى والاستصحاب الاستقبالي )، التنبيه الثاني ( هل الاستصحاب التعليقي حجة أو لا ؟) - تنبيهات الاستصحاب - مبحث الاستصحاب - الأصول العملية.

هل الاستصحاب الاستقبالي حجة أو لا؟

قد يقال بحجيته لوجهين: -

الوجه الأول:- اطلاق حديث ( لا تنقض اليقين بالشك )، فإنه يدل على أنَّ اليقين لابد من فرض كونه متقدّماً على الشك، ومن المعلوم أنَّ الأمر في الاستصحاب الاستقبالي هو كذلك - يعني أنَّ المتيقن متقدَّم على الشك أو المشكوك -، فهذا الركن محفوظ في الاستصحاب الاستقبالي كما هو محفوظ في الاستصحاب المتعارف، وحينئذٍ نتمسك بإطلاق ( لا تنقض اليقين بالشك ) فتثبت حجيته، يعني نحن نسلَّم بأنَّ ( لا تنقض اليقين بالشك ) ظاهر باعتبار تقدّم اليقين على الشك، ولكن نقول إنَّ تقدّم اليقين على الشك لا ينحصر في مورد الاستصحاب المتعارف فقط وإنما هو ثابت أيضاً في مورد الاستصحاب الاستقبالي، فنتمسك بإطلاق ( لا تنقض اليقين بالشك ) لإثبات حجيته.

وهو وجهٌ وجيه.

الوجه الثاني: - السيرة العقلائية، فإنها جرت على التمسك بالاستصحاب الاستقبالي، بدليل أنَّ الانسان يبني داراً، وبناء الدار قد يستغرق فترة طويلة والحال أنه من قال إنه سوف يبقى على قيد الحياة إلى ما بعد البناء ولكنه رغم ذلك يبني على بقائه حياً طيلة هذه الفترة، وهذا معناه أنَّ الاستصحاب الاستقبالي حجة، إذ لو لم يكن حجة فلا يستطيع أيّ انسان أن يبني داراً أو ينجز عملاً، وهكذا الحال حينما يذهب المكلف إلى الحج فمن قال إنَّ قدرته سوف تبقى إلى نهاية أعمال الحج بل لعلها تزول بسبب عارضٍ، ولكن رغم ذلك ترى الناس يبنون على البقاء، وهذا أيضاً استصحاب استقبالي يعتمد عليه الناس، وهكذا في موارد كثيرة، وهذه السيرة لم يردع عنها فيثبت امضاؤها.

ولكن نقول: -

أما الوجه الأول: - فصحيحٌ أنه الأمر كما قيل بادئ ذي بدء، ولكن نحن أضفنا مقدمة رابعة على مقدمات الحكمة، وهي أن يستهجن الاطلاق عرفاً على تقدير ارادة المقيد واقعاً، فإن استهجن فسوف ينعقد الاطلاق وسوف نتمسك به، وأما إذا لم يستهجن الاطلاق على تقدير إرادة المقيد واقعاً فلا ينعقد الاطلاق، والسبب واضح في عدم انعقاد الاطلاق، وهو أنَّ الاطلاق هنا لا يستهجن على تقدير إرادة المقيد واقعاً فكيف نتمسك به والحال أنه من المحتمل أنَّ المتكلم يريد المقيد والمفروض لا استهجان؟!!، وعلى أساس هذه المقدمة قلنا بعدم كفاية العين المسلحة في اثبات هلال أول الشهر، لأنَّ الفترة التي صدرت فيها الروايات لم تكن هناك عين مسلحة، ولو قال قائل:- كانت توجد عين مسلحة في بعض تلك الأزمنة، ولكن نقول:- إنَّ ذلك كان قليلاً جداً وليس شيئاً متعارفاً، فنقول حينما صدر من الأئمة عليه السلام ( صم للرؤية وافطر للرؤية ) لا يمكن التمسك هنا بإطلاقه بدعوى أنَّ هذه رؤية بالعين المسلحة، إذ نقول لو كان مراد الامام عليه السلام خصوص النظر بالعين غير المسلحة فلا يشكل عليه ويقال لماذا اطلقت ولم تقيّد وتقول بشرط أن تكون الرؤية بالعين المجردة، فالإمام عليه السلام سوف يجيب ويقول إنَّ العين المسلحة لم تكن موجودة بشكلٍ متعارفٍ في تلك الفترة الزمنية، وعليه لا يستهجن الاطلاق إذا كان مراد المتكلم هو ارادة المقيَّد واقعاً، فلا ينعقد الاطلاق.

ونحن نستفيد من هذه المقدمة في المقام فنقول:- إنه لا يمكن التمسك بإطلاق ( لا تنقض اليقين بالشك ) لإثبات حجية الاستصحاب الاستقبالي، إذ لو ظهر الامام عليه السلام وقال إنَّ مقصودي من ( لا تنقض اليقين بالشك ) هو ما إذا فرض أنَّ اليقين كان متقدّماً بالشكل الموجود في الاستصحاب العادي لا بالشكل الموجود في الاستصحاب الاستقبالي فيمكن أن يقال إنَّ هذا لا يسهجن منه، ولا أقل من الشك في الاستهجان وعدمه، وهذا يكفينا في عدم انعقاد الاطلاق.

أما الوجه الثاني فنقول:- إنَّ التمسك بالسيرة شيء وجيه، بيد أنها خاصة بموارد معدودة، كمن هو حيٌّ الآن ويشك في بقائه على قيد الحياة إلى ما بعد بناء الدار أو لا، أو هل يبقى إلى نهاية الحج أو لا، فهذه موارد خاصة نسلّم انعقاد السيرة فيها على الاستصحاب الاستقبالي وإلا لاختلت الحياة، ولكن لا تتم هذه دعوى هذه السيرة في مثل ما لو رأت المرأة الدم وتشكت هل يستمر إلى ثلاثة أيام أو لا، فوجود مثل هذه السيرة في هذا المورد أول الكلام، فإذاً هذه السيرة المدّعاة ضيّقة وفي مساحةٍ محدودة، وعليه فلا يمكن من خلالها اثبات حجية الاستصحاب الاستقبالي بشكلٍ مطلق.

والنتيجة: - إنَّ الاستصحاب الاستقبالي ليس بحجة كاستصحاب القهقرى إلا في موارد محدودة، من جملتها ما إذا شك المكلف في بقاء قدرته إلى المستقبل ففي هذا المورد يكون الاستصحاب الاستقبالي حجة، ومنها ما لو أراد المحرم حكَّ لحيته وشك في أنه هل يسقط منه الشعر أو لا فهنا جرت السيرة على أنَّ المحرم يحك لحيته ولا يعتني بشكه، ففي هذه الموارد وما شاكلها يمكن أن يدّعى انعقاد السيرة على حجية الاستصحاب الاستقبالي، ولكن هذه موارد محدودة، أما انعقادها بنحو الاطلاق على حجية الاستصحاب الاستقبالي فلم يثبت.

التنبيه الثاني: - الاستصحاب التعليقي.

هذا البحث من الأبحاث المهمة النافعة للفقيه، والمقصود من ذلك أنَّ الاستصحاب ينقسم إلى قسمين، تنجيزي، وتعليقي، والتنجيزي هو القدر المتيقن من دليل حجية الاستصحاب، وإنما وقع الكلام في الاستصحاب التعليقي، ومثال الاستصحاب التعليقي العصير العنبي فإنه يوجد له حكمان، الأول كونه مملوكاً لمن عصر هذا العنب، وهذا حكم تنجيزي، وله حكم تعليقي وهو أنه إذا غلى وقبل أن يذهب ثلثاه يصير حراماً وهذا ما دلت عليه الروايا، وحينئذٍ نقول إذا صار العنب زبيباً قبل أن نعصره وشككنا أنَّ الزبيب كالعنب في الحكم إذا غلى أو لا، فهل يحرم العصير الزبيبي إذا غلى كالعصير العنبي أو لا، فنشك في ذلك فنقول إنَّ الحرمة المعقلَّة على الغليان كانت ثابتة في العنب بلا إشكال ونشك في بقائها بالنسبة إلى الزبيب - بناء على كون العنب والزبيب من فصيلةٍ واحدةٍ والاختلاف إنما هو في الحالات وإلا فالاستصحاب لا يجري فيه - فنشير إليه ونقول هذا حينما كان طرياً إن غلى حرم وحينما صار زبيباً الآن نشك في ذلك نستصحب ذلك الحكم السابق، فتثبت الحرمة المعلَّقة في حق الزبيب فيصير حراماً إذا غلى، وهذا استصحاب لحكمٍ تعليقيٍّ وليس استصحابناً لحكمٍ تنجيزي.