الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

43/06/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - التنبيه الأول ( استصحاب القهقرى والاستصحاب الاستقبالي ) - تنبيهات الاستصحاب - مبحث الاستصحاب - الأصول العملية.

هل استصحاب القهقرى حجة أو لا؟

والجواب: - إنه ليس بحجة، وذلك لوجهين: -

الوجه الأول: - القصور في المقتضي للحجية سواء كان المقتضي لها هو الروايات أو السيرة: -

فإن كان المقتضي للحجية هو الروايات:- فباعتبار أنَّ روايات الاستصحاب قالت ( لا تنقض اليقين بالشك )، يعني أنها افترضت أنَّ اليقين قد ثبت أوّلاً والشك قد ثبت ثانياً، وهذا يختص بالاستصحاب المتعارف، ولا يشمل ما إذا كان اليقين متأخراً والشك متقدّماً كما هو الحال في استصحاب القهقرى، فاليقين بنزول الدم موجود ولكن المرأة تشك في نزوله قبل ذلك، فزمان الشك متقدّم وزمان اليقين الآن، وظاهر روايات الاستصحاب أنه يلزم في باب الاستصحاب أن يكون اليقين حاصلاً أوّلاً والشك يحصل بعد ذلك، بينما في استصحاب القهقرى الأمر بالعكس، وعليه فالروايات الدالة على حجية الاستصحاب لا تشمل استصحاب القهقرى، يعني أنه ليس بحجة من باب القصور في المقتضي، فإنَّ مقتضي الحجية هو الروايات وهي قاصرة عن شموله.

إن قلت: - إنَّ تعبير ( لا تنقض اليقين بالشك ) يصلح لكلا الأمرين أي لحالة ما إذا كان اليقين متقدّماً والشك متأخراً كما في الاستصحاب المتعارف أو بالعكس كما في استصحاب القهقرى فإنه في كليهما يصدق لا تنقض اليقين بالشك، فغن الامام عليه السلام يريد أن يقول خذ بالقين ولا تأخذ بالشك وهذا يشمل كلتا الحالتين.

قلت: - إنه لو ظهر المتكلم وقال إنَّ مقصودي من ( لا تنقض اليقين بالشك ) حالة تقدم اليقين وتأخر الشك فهل يلام على ذلك ويقال له لماذا لم تقيد بهذا القيد أو لا يلام على ذلك؟ الصحيح أنه لا يلام على ذلك، فلا يقال له لماذا لم تقيد وتقول إنَّ مقصودي هو حالة كون اليقين أسبق من الشك، فإذا لم يلم على ذلك فحينئذٍ لا يمكن التمسك بالاطلاق، فإنا ذكرنا في باب مقدّمات الحكمة أنَّ شرط انعقاد الاطلاق بمقدمات الحكمة أن يفترض أن المتكلم لا يلام إذا كان مقصوده هو الاطلاق وأما إذا كان مقصوده خصوص الحصة فسوف يلام، وقد استعنّا بهذه المقدمة في باب رؤية الهلال باللعين المسلحة وأنها هل تكفي تمسكاً بالاطلاق أو لا تكفي وقد قلنا إن الاطلاق هنا محل إشكال لأنه لو ظهر المتكلم وقال إنَّ مرادي هو المقيد أي النظر بالعين المجردة لا النظر بأي شكل اتفق ولو العين المسلحة لا يلام على ذلك ولا يقال له لماذا أطلقت ولم تقيد، فحينئذٍ لا ينعقد الاطلاق، أما أنه لماذا لا يلام على ذلك؟ ذلك ولو لأجل أنَّ العين المسلحة لم تكن حالة متعارفة في تلك الفترة الزمنية، فإذا لم تكن حالة متعارفة فيمكن أن يكون المتكلم قد أطلق اعتماداً على الحالة المتعارفة، وهنا نقول نفس هذا الشيء وهو أنَّ المتكلم لو ظهر وقال إنَّ مقصودي هو حالة تقدم اليقين وتأخر الشك فلا يقال له لماذا أطلقت ولم تقيد، وعليه فلا ينعقد الاطلاق.

وإن كان المقتضي للحجية هو السيرة العقلائية - لو قلنا بوجودها - فيمكن أن يقال: - إنَّ الذي انعقدت عليه السيرة بنحو الجزم هو حالة ما إذا كان اليقين متقدّماً الشك متأخراً - أي الاستصحاب التعارف - أما حالة العكس فيشك في انعقاد السيرة على حجية الاستصحاب فيها، ويكفينا الشك في عدم إمكان التمسك بالسيرة في حالة العكس.

الوجه الثاني:- نقول إنه يوجد دليل على العكس - أي يوجد دليل على عدم حجية استصحاب القهقرى - وذلك لفكرة المعارضة، لأنَّ استصحاب القهقرى يعارض بالاستصحاب المتعارف، فلا يمكن لحديث ( لا تنقض اليقين بالشك ) أن يشملهما معاً، لأنَّ المرأة مثلاً حينما رأت الدم قد نزل منها بعد غروب الشمس بلحظات فإذا أرادت أن تجري استصحاب القهقرى فسوف تستصحب نزوله بنحو القهقرى إلى ما قبل الغروب، ولكن هذا الاستصحاب معارضٌ بالاستصحاب العادي، فإنه ظهراً لم يكن الدم نازلاً منها جزماً وتشك بعد ذلك في نزوله إلى الغروب فتستصحب عدم نزوله وبذلك يتعارض الاستصحابان، وحيث إنَّ دليل حجية الاستصحاب - وهو قوله عليه السلام ( لا تنقض اليقين بالشك ) - لا يمكن أن يشمل أحدهما دون الآخر فحينئذٍ لا يمكن التمسك بالاطلاق، وإنما يؤخذ بالقدر المتيقن وهو حجية الاستصحاب المتعارف.

إن قلت: - إنه إذا سلّمنا بفكرة المعارضة بين استصحاب القهقرى والاستصحاب المتعارف يلزم من ذلك سقوط الاستصحاب المتعارف عن الحجية أيضاً، لفرض أنه معارض باستصحاب القهقرى.

قلت: - إنه حتى لو تم هذا ولكن نقول يوجد دليل يدل على أنَّ الاستصحاب المتعارف هو المقدَّم، وهو صحيحة زرارة الثانية يقول فيها زرارة: - ( قلت له:- أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من مني ...... قال:- فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئاً ثم صليت فرأيت فيه، قال:- تغسله ولا تعيد الصلاة ،قلت:- لم ذاك ؟ قال:- لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً )، فهنا الإمام عليه السلام رغم كون المورد من المعارضة بين الاستصحاب المتعارف واستصحاب القهقرى ولكنه قدَّم الاستصحاب المتعارف، أما أنَّ المورد من المعارضة بين الاستصحاب المتعارف واستصحاب القهقرى فكونه من الاستصحاب المتعارف فواضحٌ، لأنَّ زرارة قبل ساعة من دخوله في الصلاة لم يكن على ثوبه دم فيشك هل أصابه الدم الآن أو لا فيستصحب العدم في جميع الآنات السابقة إلى حين رؤية الدم وتكون النتيجة هي أنَّ الاصابة صارت عند الرؤية، وهذا هو الاستصحاب المتعارف حيث يوجد عنده يقينٌ سابق بالطهارة وشكٌ لاحق وهو الآن فيجري الاستصحاب المتعارف، وفي المقابل يوجد استصحاب القهقرى، لأنه حينما رأى النجاسة الآن فيقيناً أنَّ ثوبه نجس الآن ولكنه يشك في أنَّ هذه النجاسة هل حدثت قبيل الدخول في الصلاة أو لا فباستصحاب القهقرى يستصحبها إلى قبيل الصلاة، وبذلك يوجد استصحابان في هذا المورد، ولكن رغم وجودهما قدَّم الامام عليه السلام الاستصحاب المتعارف ولم يشر إلى استصحاب القهقرى وهذا يدل على أنه إذا اجتمع الاستصحاب المتعارف مع استصحاب القهقرى يقدَّم الاستصحاب المتعارف دائماً لأجل هذه الرواية الشريفة.