الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

43/05/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - الأقوال في حجية الاستصحاب - مبحث الاستصحاب - الأصول العملية.

التفصيل الثاني: - وهو التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في المانع.

قد فصّل بعضٌ بين ما إذا فرض أنَّ المستصحب كان له اقتضاء للبقاء واستمرار لو خلّي وطبعه ولكن نشك في انعدامه لحدوث رافعٍ وإلا فبقطع النظر عن الرافع فهو له اقتضاء البقاء، وين ما إذا فرض أنا نشك في بقائه من ناحية عدم معرفتنا بدرجة اقتضائه فهل هو يقتضي البقاء بدرجةٍ قويةٍ فيكون مستمراً أو لا فيكون منعدماً، ومثال الأول الملكية فإنَّ من ملك شيئاً فملكيته لذلك الشيء تبقى إلى ما شاء الله إلا أن ترتفع برافعٍ من موتٍ أو بيعٍ أو ما شاكل ذلك، ومثل الرقّية والحرّية والطهارة والنجاسة والخيار وما شاكل ذلك، فلو فرضنا أنك اشترط الخيار فسوف يكون ثابتاً بشكلٍ مستمر وله قابلية للبقاء - نعم إذا كان الخيار خيار المجلس فقابليته في حدود المجلس فقط - ولكن الشك في البقاء وعدم البقاء هنا لا يكون من ناحية الشك في اقتضائه للبقاء وإنما من جهة احتمال حدوث الرافع للملكية من فسخٍ أو بيعٍ أو ما شاكل ذلك، ومثال الذي لا يكون له اقتضاء للبقاء فهو في خيار الغبن، فإنَّ خيار الغبن إلى متى تكون له صلاحية للبقاء؟، فلو اطّلع المغبون على الغبن ولم يفسخ فهل توجد صلاحية لهذا الخيار في البقاء لمدة شهرٍ أو شهرين أو سنةٍ أو أنه له فقابلية البقاء في الآنات الأولى فقط؟، فهنا يشك في بقاء الخيار من ناحية الشك في درجة اقتضائه، وهذا هو المقصود من الشك في المقتضي والشك في الرافع، يعني أنَّ الشك في بقاء المستصحب تارةً يكون مع العلم بثبوت الاقتضاء له ينحوٍ مستمر ولكن يشك في الرافع له، ومرةً يُشَك في البقاء من ناحية الشك في درجة الاقتضاء له في البقاء.

ومن خلال كلامنا هذا اتضح أنَّ المقصود من الاقتضاء وأنه له مقتضي ليس هو المقتضي في باب العلّة حيث يقال إنَّ العلة التامة مركبة من ثلاثة أجزاء مقتضي وشرط وعدم مانع، وإنما المقصود هو هذا المعنى، فالملكية حيما نقول لها اقتضاء البقاء يعني أنَّ لها قابلية البقاء إلى الأبد إلا أن تزول بموتٍ أو فسخٍ أو ما شاكل ذلك، وليس المقصود من الشك في المقتضي المقتضي الذي هو من أحد مقوّمات العلّة التامة، فلا يحصل خلطٌ في هذا المجال.

وقد ذهب الشيخ الأعظم(قده) إلى هذا التفصيل حيث قال:- ( والأقوى هو القول التاسع )[1] ، فإنه ذكر الأقوال في حجية الاستصحاب أولاً والقول التاسع منها كان هو التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع، فإنَّ كان الشك في الرافع - يعني أنَّ الاقتضاء مُحرَز - فالاستصحاب يكون حجة، وأما إذا كان الشك في أصل الاقتضاء للبقاء فلا يكون الاستصحاب حجة، وقد تبنى هذا التفصيل المحقق الخوانساري(قده) صاحب شرح الدروس قبل الشيخ الأعظم(قده)، وقال الشيخ الأعظم(قده) عنه:- ( إنه أوَّل من فتح باب الاشكال في استفادة العموم من الأخبار )[2] ، يعني أنه أوّل من أشار إلى إمكان الاشكال في حجية الاستصحاب بنحوٍ مطلق بل يلزم التفصيل، وممَّن بنى على هذا التفصيل المحقق الحلّي(قده) في معارجه، وممَّن بنى عليه مؤخراً الشيخ النائيني(قده)[3] .

وما هو الوجه لهذا التفصيل؟

الجواب: -

أما الشيخ الأعظم(قده)[4] :- فقد ذكر وجهاً يتكون من ثلاث مقدمات:-

المقدمة الأولى:- إنه استعان بكلمة النقض حيث قال إنَّ الروايات قالت ( لا تنقض اليقين بالشك )، والنقض هو حلّ الأمر المبرم، مثل الحبل، فإن كان الحبل مبرماً إبراماً شديداً بحيث يكون حلَّه بصعوبة فهذا يعبّر عنه بالنقض، وأما إذا فرض أن الحبل لم يكن مبرماً بهذا الشكل وإنما كانت الخيوط بعضها موضوع على البعض الآخر ولكن من دون أن يحصل إبرامٍ بشكلٍ شديد بين الخيوط فإذا أزلنا هذا الخيط عن الخيطٍ الثاني وعن الخيط الثالث فلا يقال له نقضٌ، وإنما النقض يختص بما إذا كان الشيء مبرماً، فالنقض إذاً عبارة عن رفع الهيأة الاتصالية كما في نقض الحبل.

المقدمة ثانية:- إنَّ هذا المعنى - أي النقض الذي هو بمعنى حلّ الأمر المبرم - يتصور في الأمور المحسوسة الخارجية مثل الحبل كما قلنا، فإذا حُلَّت خيوط الحبل يقال هذا نقضٌ، وأما إذا لم تكن هناك هيأة اتصالية حسّية كما هو الحال في المتيقّن فإنَّ المتيقن ليس له هيأة اتصالية حسّية فاستعمال كلمة النقض في الرواية يصير مجازاً، لأنَّ كلمة النقض كما قلنا موضوعة لحلّ الهيأة الاتصالية الحسّيّة، والامام عليه السلام لا يريد ذلك وإنما يريد رفع اليد عن المتيقَّن، فاستعمال كلمة النقض في رفع اليد عن المتيقن بالشك يكون استعمالاً مجازياً.

المقدمة الثالثة:- إنَّ المعنى المجازي للنقض في المقام مرددٌ بين أمرين، بين أن يراد منه رفع اليد عن المتيقَّن مجازاً ولكن حتى إذا لم يكن للمتيقَّن اقتضاء للبقاء مثل الجدار الذي لا اقتضاء له للبقاء، وبين أن يكون المقصود منه رفع اليد عن المتيقَّن الذي له اقتضاء البقاء والاستمرار كالطهارة والنجاسة والملكية فإنَّ هذه الأمور لها اقتضاء البقاء لأيامٍ وشهورٍ إذا لم يحصل رفعٌ، ومن المعلوم في علم البلاغة أنه عند دوران الأمر المجازي بين معنيين يصار إلى المعنى المجازي الأقرب للمعنى الحقيقي، والأقرب إلى المعنى الحقيقي المتعذّر هو رفع اليد عن الأمر المبرم والمحكم والذي له اقتضاء البقاء دون الذي ليس له اقتضاء البقاء.

وتصير النتيجة: - هي أنَّ الاستصحاب يكون حجة بقرينة استعمال كلمة النقض في إرادة خصوص رفع اليد عن المستصحب بالشك إذا كان للمستصحب اقتضاءٌ للبقاء كالوضوء والغسل والطهارة والنجاسة والملكية، أما ما ليس له اقتضاء البقاء فلا يكون الاستصحاب فيه حجة.


[1] فرائد الأصول، الأنصاري، ج3، ص51، ط جديدة.
[2] فرائد الأصول، الأنصاري، ج3، ص78، ط جديدة.
[3] فوائد الأصول، النائيني، ج4، ص373- 377.
[4] فرائد الأصول، الأنصاري، ج3، ص78.