الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

43/05/27

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - الأقوال في حجية الاستصحاب - مبحث الاستصحاب - الأصول العملية.

الاشكال الثاني: - أن يقال إنَّ أصالة عدم الجعل الزائد لوجوب لصلاة الجمعة معارضة بأصالة عدم جعل الاباحة لصلاة الجمعة، إذ الأمر يدور في زمان الغيبة بين أن تكون واجبة وبين أن تكون مباحة، فإذاً أصالة عدم الجعل الزائد للوجوب معارضة بأصالة عدم الجعل الزائد للإباحة، فإنَّ الحكم لصلاة الجمعة في زمان الغيبة هو إما الوجوب أو الاباحة - ولنفترض أنَّ الدوران كان ببين هذين -، فيتعارض الأصل في الجعل - أي في جعل الوجوب الزائد فإنَّ الأصل عدم جعل الوجوب الزائد لصلاة الجمعة في زمان الغيبة - مع أصل عدم الجعل الزائد للإباحة لصلاة الجمعة في صلاة الغيبة ويتساقطان فيبقى استصحاب بقاء المجعول جارياً من دون معارض، فإنَّ معارضه كان هو أصالة عدم الجعل الزائد لوجوب صلاة المجعة في زمان الغيبة، وحيث أسقطناه بأصالة عدم الجعل الزائد للإباحة - لجعل الاباحة - فحينئذٍ تسقط أصالة عدم الجعل الزائد بالمعارضة مع أصالة عدم الجعل الزائد للإباحة فيبقى استصحاب بقاء المجعول جارياً من دون معارض.

ويوجد مثال آخر:- وهو العصير العنبي إذا غلى، فإنَّ العصير العنبي إذا غلى فسوف يحرم جزماً، ولكن لو فرض أنه ذهب ثلثاه فهل تزول الحرمة أو تكون باقية، فهنا قد يقال لا يجري استصحاب بقاء الحرمة بعد ذهاب الثلثين للمعارضة بأصالة عدم الجعل الزائد للحرمة بعد ذهاب الثلثين، وفي هذا الاشكال يُبرَز معارضٌ لأصالة عدم الجعل الزائد للحرمة وهو أصالة عدم جعل الاباحة، فنقول إنَّ أصالة عدم الجعل الزائد للحرمة هو في نفسه لا يجري كي يعارض استصحاب بقاء المجعول للمعارضة بأصالة عدم الجعل للإباحة بعد ذهاب الثليثين، فيسقط هذان الأصلان الجاريان بلحاظ الجعل - الأول أصالة عدم الجعل الزائد للحرمة بعد ذهاب الثلثين والثاني أصالة عدم جعل الاباحة بعد ذهاب الثلثين - فيبقى الأصل في المجعول جارياً من دون معارض وتكون النتيجة على خلاف ما أنتهى إليه العلمان، ويصير هذا إشكالاً عليهما، فنقول للسيد الخوئي(قده) في مثال العصير إنَّ استصحاب عدم الجعل الزائد للحرمة لا يجري لأنه معارضٌ بأصالة عدم الجعل الزائد للإباحة فيبقى استصحاب بقاء المجعول - يعني الحرمة الفعلية - عند ذهاب الثلثين جارياً من دون معارض.

وفي الجواب نقول: -

أولاً: - يمكن أن يقال إنَّ الاباحة ليست مجعولةً حتى نشك في جعلها والأصل عدم جعل الاباحة، بل الاباحة عبارة أخرى عن عدم جعل الحرمة وعدم جعل الوجوب وعدم جعل الاستحباب وعدم جعل الكراهة، فهذا المجموع الرباعي نحن نعبّر عنه بالإباحة وإلا فلا يوجد حكم بالإباحة حقيقةً، فالإباحة ليست من الأحكام المجعولة وإنما الأحكام المجعولة هي أربعة وليست خمسة، وإنما يكفي في الاباحة عدم جعل تلك الأحكام الأربعة، فهي ليست شيئاً زائداً عن عدم تلك الأحكام الأربعة، فإذا بنينا على أنها ليست من الأحكام المجعولة فعلى هذا الأساس لا معنى لجعل المعارض لأصالة عدم جعل الحرمة في مثال العصير العنبي هو أصالة عدم جعل الاباحة فإنَّ الاباحة ليست من الأحكام المجعولة حتى يجري الأصل لنفي جعلها.

ثانياً: - لو سلّمنا أنَّ الاباحة من الأحكام المجعولة ولكن نقول لماذا جعلت المعارضة ثنائية ولم تجعلها ثلاثية، بل عليك أن تجعلها ثلاثية من البداية فتسقط الأصول الثلاثة بأجمعها، فصاحب الاشكال يريد أن يقول إنَّ أصالة عدم الجعل الزائد لحرمة العصير العنبي بعد ذهاب الثلثين معارضٌ بأصالة عدم جعل الاباحة فيتعارضان ويسقطان فنرجع إلى استصحاب بقاء المجعول - أي الحرمة -، ولكن نقول: - لماذا تجعل المعارضة ثلاثية، فمن البداية قل إنَّ هذه الأصول الثلاثة تتعارض فيما بينها ويتساقط الجميع دفعةً واحدةً لا أنه أولاً يسقط الأصلان بلحاظ الجعل ويبقى استصحاب بقاء المجعول جارياً من دون معارضٍ فإن هذا غير صحيح، بل قل تسقط الأصول الثلاثة في معارضةٍ واحدة.

وبهذا اتضح إلى الآن أنَّ الجواب الصحيح على الشبهة التي ذكرها العلمان هو ما ذكرناه وليس ما ذكر في هذين الاشكالين.

وقد ذكر كلام في صالح العلمين لإثبات عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية وذلك بأن يقال:- إما أن نفترض أنَّ قيود الموضوع لجريان الاستصحاب موجودة بأجمعها أو نفترض أنَّ بعضها مختل، فإن فرضنا أنها موجودة بأجمعها فحينئذٍ يجري استصحاب بقاء حرمة العصير العنبي أو بقاء وجوب صلاة الجمعة من دون إشكال، وإن فرض عدم توفر جميع القيود فاستصحاب بقاء حرمة العصير العنبي أو وجوب الجمعة لا يجري في حدّ نفسه حتى تصل النوبة إلى المعارضة بأصالة عدم الجعل الزائد، وعلى هذا الأساس يكون كلام العلمين وجيهاً في مثل هذه الحالة، ونحن لابد وأن نختار الشق الثاني فنقول إنَّ القيود ليست متوفرة بأجمعها فلا يجري الاستصحاب.

وفي مقام التعليق نقول: - هناك شق ثالث وهو أن تكون القيود المعتبرة تامة ثم ينتفي ما يُجزَم باعتباره ويُشك في البقاء، وهذا من قبيل استصحاب نجاسة الماء المتغير بالنجاسة بعد زال تغيره من قبل نفسه، فإنه مادام متغيراً فلا إشكال في الحكم بنجاسته لتغيّره بعين النجاسة حسب الفرض، وبعد أن زال تغيّره من قبل نفسه سوف نشك في بقاء نجاسته لاحتمال أنَّ التغير إذا حدث فهو يُحدِث النجاسة ويُبقيها حتى بعد زوال التغير مادام لم يتصل بالماء الكثير وإنما التغير السابق له فعّالية فحينما يكون التغيّر موجوداً فسوف يحصل التنجّس وحينما يزول ولم يتصل بالكر فالتنجّس بَعدُ باقٍ، ففي مثل هذه الحالة نحن نعلم بأنَّ التغير لو حصل فقد حدثة النجاسة جزماً وإذا لم يحصل التغير لم تحدث النجاسة جزماً ولكن إذا زال التغير نحتمل أنَّ النجاسة باقية رغم زوال التغير لأنَّ نفس التغير هو مُحدِثٌ ومُبقٍ للنجاسة بعد زواله، وهذا الاحتمال موجود، فحينئذٍ لا معنى لأن تقول إذا كانت القيود كلّها موجودة فالحكم يكون جزمياً ولا شك وإذا لم تكن موجودة فالحكم منتفٍ جزماً فلا شك على كلا التقديرين فإنَّ هذا باطل، إذ يقال هناك شق ثالث وهو أن يكون القيد بوجوده مؤثراً وإذ انعدم فأيضاً يبقى تأثيره حتى بعد انعدامه كما في مثال الماء الكر إذا تغير بالنجاسة، فإنه مادام التغير موجوداً فهو نجس جزماً، وأما إذا زال التغير من قبل نفسه لا بالاتصال بالماء الكثير نشك في بقائه على النجاسة لاحتمال أنَّ التغير السابق يؤثر في النجاسة حتى بعد زواله، فهنا يعود المجال مفتوحاً لجريان الاستصحاب، لا أنَّ الشك ليس بموجودٍ كما ذكر في هذا التقريب.