الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

43/05/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - الأقوال في حجية الاستصحاب - مبحث الاستصحاب - الأصول العملية.

كان كلامنا في مناقشة التفصيل الذي ذكره السيد الخوئي(قده) في باب الاستصحاب، وهو كالتفصيل الذي ذكره النراقي(قده)، وهو أنَّ الاستصحاب في باب الأحكام الكلّية ليس بحجة لمعارضة استصحاب البقاء بأصالة عدم الجعل الزائد، وأما الشق الثاني الذي غير الأحكام الكلية فهو ليس نقطة خلافٍ بيننا، فإنه قال هو يجري لأنه لا يوجد جعل في باب الموضوعات حتى تجري أصالة عدم الجعل الزائد حتى تصير معارضة لاستصحاب بقاء الحكم، أما نقطة الخلاف بيننا فهي في استصحاب الأحكام الكلية حيث قال هو لا يجري للمعارضة، كما في صلاة الجمعة إذا شككنا في الوجوب في زمن الغيبة فيقال إنَّ استصحاب بقاء الوجوب إلى زمن الغيبة معارضٌ بأصالة عدم جعل الوجوب في زمن الغيبة، وكل استصحاب حكمي يبتلي بهذا المعارض، فلا يكون الاستصحاب في باب الأحكام الكلية حجة.

وحاصل ما نقول في مناقشته: - إنَّ شرط الاستصحاب كما نعرف هو وجود يقين سابق وشك لاحق، ومن المعلوم أنه في باب استصحاب وجوب صلاة الجمعة وما شاكل ذلك يكون اليقين والشك حاصلين في زمنٍ واحدٍ وفي آنٍ واحدٍ لا أنَّ اليقين موجود قبلاً والشك يحدث لنا فيما بعد، بل الفقيه بمجرد أن يتوجه إلى مسألة وجوب صلاة الجمعة فهو عنده يقين بالوجوب بمقدار زمان حضور الامام عليه السلام وشك في زمان الغيبة، فاليقين والشك قد اقترنا وحصلا في زمانٍ واحد، لا أنَّ اليقين سابق والشك لاحق، فكيف يجري الاستصحاب؟، وهذا السؤال لابد من وجود جوابٍ له.

وفي الجواب عن هذا السؤال نقول: - إنَّ الحكم الشرعي - كالوجوب - هو تشريع رباني، وهذا التشريع تارةً ينظر إليه بما هو تشريعُ وجوبٍ وحكمٌ وتشريع، وأخرى ينظر إليه بما هو وصفٌ لصلاة الجمعة حيث نقول صلاة الجمعة واجبة، ولا شك في ثبوت هاتين النظرتين، فإن نظرنا إليه بالنظرة الأولى فحينئذٍ يعبر عنه بالجعل، ويوجد جعل وتشريع متيقن بمقدار زمان الحضور وشكٌّ بمقدار زمان الغيبة بيد أنَّ اليقين والشك حاصلان في زمانٍ واحدٍ ومقترنان لا أنَّ المتيقن سابقٌ والشكَّ لاحقٌ، وإنما الفقيه بمجرد أن يلتفت إلى صلاة الجمعة يقول عندي يقين بوجوبها - أي بتشريع الوجوب بما هو تشريع - بلحاظ زمان الحضور وعندي شك بلحاظ زمان الغيبة، وهنا لا يجري الاستصحاب لأنَّ اليقين والشك مقترنان، ولكن يجري أصل البراءة حيث نقول إنه في زمان الحضور يوجد يقينٌ بثبوت الحكم وأما في زمان الغيبة فنشك في ثبوت الوجوب والتشريع فيجري أصل البراءة، فإنَّ المورد - أي إذا نظرنا إلى الوجوب بما هو تشريع إلهي - يكون مورد البراءة وليس مورد الاستصحاب، أما إذا نظرنا إلى الوجوب بما هو وصفٌ لصلاة الجمعة بحيث نتمكن عرفاً أن نقول صلاة الجمعة كانت متَّصفةً بالوجوب والآن نشك في بقاء اتّصافها بالوجوب فيكون ذلك مجرى للاستصحاب، وهذه النظرة هي نظرة عرفية مقبولة ولا محذور فيها.

وبعد اتضاح هذا نقول: - إنَّ السيد الخوئي حينما أجرى كلا الأصلين، يعني أجرى استصحاب بقاء الوجوب وفي نفس الوقت قال بأصالة عدم الجعل الزائد وجعل بينهما معارضة، ونحن نقول إنَّ هذا معناه تحكيم كلتا النظرتين لا أحداهما، والفقيه إما أن يأخذ بالنظرة الأولى أو يأخذ بالنظرة الثانية، يعني إما أن ينظر إلى التشريع بما هو تشريع ووجوب أو ينظر إليه بما أنه صفة لصلاة الجمعة مثلاً وأنها واجبة، وعلى النظرة الأولى يكون المورد من أصل البراءة، وعلى النظرة الثانية يكون المورد من الاستصحاب، وتحكيم كلتا النظرتين شيء غير ممكن، بل لابد من تحيكم أحدهما، وحيث إنَّ النظرة العرفية هي المحكّمة - يعني أن العرف يرى أنَّ استصحاب بقاء الوجوب شيء مقبول فإنه لا يوجد أحدٌ من العرف يشك في صحة استصحاب بقاء الوجوب - فهذا معناه أنَّ النظرة إلى الوجوب بما هو صفةٌ لصلاة الجمعة نظرة عرفية مقبولة، وعلى هذا الأساس يلزم جريان استصحاب بقاء المجعول، وتحكيم كلتا النظرتين أمر غير ممكن للتهافت والتباين بين النظرتين، فإما أن تنظر إلى الوجوب بما هو تشريع، أو تنظر إليه بما هو وصفٌ للصلاة، أما أن تحكّم كلتا النظرتين وتجمع بينهما فهو أمر غير ممكن.

وبهذا اتضح أنَّ الاشكال على السيد الخوئي(قده) هو في الحقيقة هو اشكالان: -

الأول:- إنه حكّم كلتا النظرتين، أي أنه نظر إلى الوجوب بما هو تشريع مرّةً ونظر إليه بما هو وصفٌ لصلاة لجمعة أخرى، وهاتان النظرتان لا تجتمعان للتهافت بينهما فإنَّ أحداهما غير الأخرى، وعلى هذا الأساس لا معنى لإجراء كلا الأصلين فإنه عبارة أخرى عن تحكيم كلتا النظرتين وقد قلنا بأنه لا يمكن ذلك للتهافت بنيهما، إذ في إحدى النظرتين ننظر فيها إلى الوجوب بما هو تشريع، وفي الأخرى ننظر إليه بما هو وصفٌ لصلاة الجمعة، وإنما يلزم تحكيم أحداهما، وبالتالي يكون الاستصحاب الجاري واحداً من هذين الاستصحابين، لأنَّ جريان الاثنين يعني تحكيم كلتا النظرتين وقد قلنا إنَّ المحكّم هو نظرة واحدة للتهافت بينهما.

الثاني: - إنَّ استصحاب عدم الجعل الزائد إذا أريد به نفي المجعول - الذي هو شيء ثانٍ مباينٌ للجعل - فهذا يكون من قبيل الأصل المثبت، فإنَّ الجعل هو شيءٌ غير المجعول، واستصحاب عدم الجعل لإثبات أنَّ المجعول ليس موجوداً يكون من الأصل المثبت، فنحن باستصحاب نفي الجعل الزائد بالأصل نفينا شيئاً آخر غير الجعل وهو المجعول وهو الوجوب المستمر إلى زمان الغيبة، وهذا من الأصل المثبت كما هو واضح.

وقد يقول قائل: - هل تريد من خلال كلامك هذا إنكار وجود مرحلتين للحكم مرحلة جعل ومرحلة مجعول؟

قلت:- نحن نسلّم بالمجعول بمعنىً وننكره بمعنىً آخر، فالذي نسلّمه هو النظر إلى الوجوب بما هو صفةٌ لصلاة الجمعة، فهو بهذا المعنى نسمّيه مجعولاً ونحن نسلّمه ونقول إنَّ مقتضى الاستصحاب بقاء هذا الوجوب المجعول، وهناك مجعولٌ آخر بمصطلحٍ آخر ولا ينبغي الخلط بين المصطلحين، وهو المجعول بمعنى فعليّة الحكم بفعلية موضوعه، فإننا قرأنا في علم الأصول أنَّ الحكم يصير فعلياً بفعلية موضوعه، فإذا تحققت الاستطاعة صار الوجوب فعلياً ويعبَّر عن الوجوب الفعلي بالمجعول، ونحن الآن حينما نقول المجعول نقصد منه الوجوب الذي لوحظ كوصفٍ لصلاة الجمعة في مقابل الجعل الذي نقصد منه ملاحظة الوجوب بما هو وتشريعٌ واعتبار، فلا ينبغي الخلط بين المصطلحات.