الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

43/05/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - الأقوال في حجية الاستصحاب - مبحث الاستصحاب - الأصول العملية.

المورد الثالث للاستثناء:- ما إذا كان الشك في حكم وضعي وكان الحكم الوضعي بحكم الاباحة، كما لو فرض أنا شككنا في بقاء طهارة الماء، كما لو حكم الشرع في زمن الحضور بطهارة شيء معيَّن ونشك في زمن الغيبة أنَّ الطهارة موجودة أو لا فيجري استصحاب الطهارة، ولا يعارض بأصالة عدم الجعل الزائد، وذلك لأنَّ الطهارة هي بمثابة الاباحة، فكما أنَّ الاباحة لا تحتاج إلى جعل كذلك الطهارة لا تحتاج إلى جعل لأنها هي الأصل الأوّلي في الأشياء والذي يحتاج إلى الجعل فهو النجاسة، فيجري استصحاب أصل الطهارة من زمان الحضور ولا يعارض بأصالة عدم الجعل الزائد للطهارة فإنَّ الطهارة بمثابة الاباحة فهو حكم لا يحتاج إلى جعلٍ وإنما يكفي تحقق الطهارة عدم جعل النجاسة.

وناقش الشيخ النائيني(قده)[1] [2] هذا التفصيل بما حاصله:- إنَّ استصحاب بقاء المجعول من الزمن السابق لا تعارضه أصالة عدم الجعل الزائد فإنَّ الأصل المذكور لا أثر له، إذ وجوب الاطاعة شرعاً وعقلاً ثابت للحكم الفعلي ويترتب عليه دون مجرّد الجعل فإنَّ الجعل وحده عبارة أخرى عن الانشاء ولا يترتب عليه وجوب الاطاعة، وبناءً على هذا استصحاب عدم الجعل لا ينفع شيئاً حتى يقع طرفاً للمعارضة لاستصحاب ذلك الحكم الفعلي، وبكلمةٍ أخرى:- استصحاب الحكم من زمان الحضور مثل وجوب الجمعة هو وجوب فعلي ثابت فنستصب بقاءه وهو استصحابٌ لوجوبٌ فعليٌّ وهو يجب إطاعته، وأما أصالة عدم الجعل فهذا لا يترتب عليه أثر فإنَّ الاطاعة ثابتة للحكم الفعلي دون الجعل والانشاء فإنه لا يترتب عليهما أثر لا نفياً ولا اثباتاً، وعليه فاستصحاب عدم الجعل بالمقدار الزائد لا يجري لعدم ترتب ثمرة عليه فإنَّ وجوب الاطاعة مترتب على الحكم الفعلي دون الحكم الانشائي.

وفي التعليق على ما أفاده نقول: - إنه يمكن أن يقال بترتب الأثر على بقاء الجعل، فإنَّ الجعل إذا كان باقياً وفرض أنَّ الموضوع كان متحققاً فحينئذٍ تثبت بذلك الفعلية، إذ الفعلية فرع ثبوت الجعل بإضافة تحقق باقي الشرائط، ففي مثال صلاة الجمعة إذا استصحبنا بقاء جعل وجوب الجمعة - أي أنَّ التشريع بَعدُ باقٍ - والمفروض أنَّ اليوم صار هو يوم الجمعة فحينئذٍ تحقق الموضوع - وهو يوم الجمعة - والتشريع ثابتٌ فيترتب الأثر فيصير الحكم حينئذٍ فعلياً، نعم استصحاب بقاء الجعل من دون ثبوت الموضوع وبقية الشرائط لا أثر له، أما مع تحقق الموضوع وبقية الشرائط يكون له أثر إثباتاً ونفياً، فالجعل إذا كان باقياً فبضمّه إلى تحقق الموضوع - أي كون هذا اليوم هو يوم الجمعة - تثبت بذلك الفعلية، فترتَّب عليه الأثر إثباتاً، وكذلك يترتب عليه الأثر نفياً وذلك فيما إذا استصحبنا عدم الجعل الزائد، فإنَّ الجعل الزائد مشكوك بلحاظ زمان الغيبة، فإذا استصحبناه إلى زمان الغيبة مع فرض وجود باقي الشرائط - وهو كون اليوم هو يوم الجمعة - فحينئذٍ يترتب عليه نفي الفعلية، فإذاً الأثر يترتب عليه إثباتاً ونفياً - يعني استصحاب الجعل واستصحاب عدم الجعل - وذلك فيما إذا فرض أنَّ الموضوع متحققاً - أي أنَّ يوم الجمعة كان متحققاً وباقي الشرائط الأخرى من كون الشخص رجلاً لا امرأة ومن وأنه حاضر وليس مسافراً وغير ذلك من شرائط صلاة الجمعة - فباستصحاب بقاء الجعل تثبت الفعلية وباستصحاب عدم الجعل يثبت نفي الفعلية، وهذا أثرٌ، فلماذا تقول لا يوجد أثر في البين لأصالة عدم الجعل الزائد.

وقد يجاب بجوابٍ آخر غير ما ذكره الشيخ النائيني(قده) ولك بأن يقال: - إنَّ أصالة عدم الجعل الزائد حاكم على استصحاب بقاء المجعول، وبتعبيرٍ آخر: - إذا استصحبنا عدم جعل الوجوب للجمعة في زمان الغيبة فهذا يكون حاكماً على استصحاب بقاء الوجوب الفعلي، فإنَّ الشك في بقاء الوجوب الفعلي ناشئ من الشك في سعة الجعل وضيقه، فإذا نفينا الجعل الزائد بلحاظ زمان الغيبة انتفى بذلك الحكم الفعلي. هكذا قد يشكل في المقام.

وفي التعليق نقول: -

أولاً:- لو سلّمنا أنَّ استصحاب بقاء الجعل أو عدم الجعل حاكماً على استصحاب المجعول - أي الحكم الفعلي - فهذا يكون في صالح السيد الخوئي والنراقي وينتج ما أراداه من أنَّ الحكم الفعلي لا يجري استصحابه، ولكن هما قالا هو لا يجري للمعارضة فيتساقطان معاً، بينما على هذا الاشكال الذي ذكرناه نقول لا يثبت الحكم الفعلي لا من باب المعارضة وإنما من باب أننا إذا استصحبنا بقاء الجعل فقد ثبتت بذلك الفعلية، وإذا استصحبنا عدم الجعل الزائد انتفت بذلك الفعلية، فبالتالي إذا استصحبنا عدم الجعل الزائد فالفعلية للحكم ليست موجودة وهذا ما أراده السيد الخوئي(قده)، فهو أراد أن يقول إنَّ استصحاب بقاء الحكم الفعلي لا يجري للمعارضة بأصالة عدم الجعل الزائد، وفي هذا الاشكال نريد أن نقول إنَّ أصالة عدم الجعل الزائد وحدها تكفي لنفي الحكم الفعلي أو استصحاب بقاءه يكفي لإثبات الحكم الفعلي، وبالتالي هذا سيكون في صالح السيد الخوئي(قده)، لأنه يريد أن يقول إنَّ الحكم الفعلي لا يمكن اثباته بالاستصحاب غايته أنه كان يقول إنه لا يمكن إثباته للمعارضة، أما نحن فنقول لا يمكن اثباته لاستصحاب عدم الجعل بالمقدار الزائد، فحن ننفي الجعل الزائد في زمن الغيبة فإنه وحده يكفي لذلك من دون الحاجة إلى فكرة المعارضة، وبالتالي تكون النتائج متوافقة وليست ضدّ السيد الخوئي(قده).

ثانياً: - إنَّ السببية في المقام ليست شرعية، وحكومة أحد الأصلين على الآخر إنما تتم فيما إذا كانت السببية شرعية، وأما إذا لم تكن كذلك فيصير المورد من الأصل المثبت، والمفروض في مقامنا أنَّ أصالة عدم الجعل الزائد لا تثبت أنه لا يوجد حكم فعلي إلا بالملازمة العقلية، فإنه إذا لم يكن جعلٌ زائدٌ في زمن الغيبة فالعقل يحكم بأنَّ الحكم الفعلي لوجوب الجمعة مثلاً ليس بثابتٍ لأنَّ الجعل منفيٌّ، فأصالة عدم الجعل الزائد أو استصحاب بقاء الجعل كلاهما لا يثبتان الحكم الفعلي أو لا ينفيانه لأنَّ السببية ليست شرعية وإنما هي عقلية، وعليه فسوف يثبت ما قاله السيد الخوئي(قده) من أنَّ استصحاب الحكم الفعلي يتعارض مع أصالة عدم الجعل الزائد ولا يكفي إجراء أصالة عدم الجعل الزائد وحده إلا على الأصل المثبت، وحيث إنَّ الأصل المثبت ليس بحجة فإذاً لابد وأن نقول بأنَّ الاستصحابين يتعارضان، فلا يجري أيٌّ منهما.


[1] أجود التقريرات، الخوئي، ج4، ص113، ط جديدة.
[2] فوائد الاُصول‌، الغروي النّائيني، الميرزا محمد حسين، ج4، ص447.