43/05/09
الموضوع: - الأقوال في حجية الاستصحاب - الأدلة على حجية الاستصحاب - مبحث الاستصحاب - الأصول العملية.
الأقوال في حجية الاستصحاب: -
عرفنا من خلال ما تقدم أنه قد سلمت لنا صحيحتي زرارة الأولى والثانية، فهما تامتان سنداً ودلالةً، وبذلك تثبت حجية الاستصحاب.
والسؤال: - هل الاستصحاب[1] حجة مطلقاً أو مع التفصيل؟
وفي هذا المجال نقول: - هناك تفصيل في حجية الاستصحاب، وأحد هذه التفاصيل هو التفصيل المعروف بأنَّ الاستصحاب ليس بحجة في الشبهة الحكمية - يعني الكلية - وحجة في الشبهات الموضوعية.
التفصيل بين الاستصحاب في باب الأحكام وغيرها: -
نقل الشيخ الأعظم(قده) هذا التفصيل[2] عن الشيخ النراقي(قده) بأنه فصّل بين الأحكام فلا يكون الاستصحاب حجة وبين غيرها فيكون حجة، وذكر كلاماً للنراقي في العوائد، فإنَّ النراقي ذكر في أحد العوائد أنَّ الاستصحاب في باب الأحكام لا يجري لشبهة المعارضة بين استصحاب بقاء المجعول - أعني الحكم السابق - وبين أصالة عدم الجعل الزائد، ولعله لم يذكر هذا بهذه الألفاظ الصريحة ولكن نفس الروح، وأخذ الشيخ الأعظم(قده) بمناقشته في الرسائل، وبقي هذا التفصيل على حاله إلى أن جاء السيد الخوئي(قده) فتبنّاه وأخذ يدفع الشبهات عنه، وروح ما استدل به العلمان واحدة، وهو أنه إنما لا يجري الاستصحاب في باب الأحكام لأجل المعارضة بين استصحاب بقاء المجعول وأصالة عدم الجعل الزائد، إلا أنَّ السيد الخوئي(قده) شيّد أركان هذا التفصيل ودفع الشبهات عنه، وبسببه لعل تبنّاه بعض تلاميذه، وحاصل ما ذكره السيد الخوئي(قده)[3] :- إنَّ عدم جريان استصحاب الحكم ليس لقصورٍ في روايات حجية الاستصحاب - أعني مثل ( لا تنقض اليقين بالشك ) - وإنما هي صالحة لشمول الاستصحاب في باب الأحكام أيضاً، وإنما الاشكال في حجية الاستصحاب في باب الأحكام لقضيةٍ أخرى وهي المعارضة بين استصحاب بقاء المجعول وأصالة عدم الجعل الزائد، ونذكر بعض الأمثلة ليتضح المقصود:-
المثال الأول:- صلاة الجمعة، فلو شككنا في وجوبها في زمان لغيبة فقد يستدل على وجوبها بالاستصحاب لأنها في زمان المعصوم كانت واجبة جزماً ونشك الآن في وجوبها فبالاستصحاب يثبت وجوبها، بيد أنَّ السيد الخوئي(قده) يقول هناك معارضة حيث إنَّ الاستصحاب الأول - أعني استصحاب بقاء الوجوب إلى زمان الغيبة - يعارض استصحاب آخر وهو أننا نشك هل المشرّع حينما شرّع وجوب صلاة الجمعة هل جعله شامل لزمن الغيبة أو لا، فهل الجعل موجود فقط بلحاظ زمان الحضور أما بلحاظ زمان الغيبة فليس موجوداً، وهذا شك في الجعل الزائد - أي بلحاظ زمن الغيبة - فاستصحاب بقاء ذلك الوجوب في زمان الحضور يعارض بأصالة عدم جعل التشريع للوجوب بلحاظ زمان الغيبة، والاستصحاب الأول يعبر عنه باستصحاب بقاء المجعول فإنَّ الوجوب الفعلي هو مجعولٌ من قبل الشرع فنستصحب بقاء الوجوب الفعلي، وأما في الاستصحاب المعارض فهو ليس ناظراً إلى الوجوب الفعلي وإنما هو ناظر إلى الجعل والتشريع فإنَّ الحكم كما نعرف توجد له مرتبتان مرتبة تشريع ومرتبة فعلية فقبل أن يحل يوم الجمعة لا يوجد وجوب فعلي لصلاة الجمعة، نعم هناك جعل وتشريع لأصل الوجوب بلحاظ زمان الحضور أو بإضافة زمان لغيبة فالذي هو موجود أو لس بموجود هو الجعل والتشريع وليس الوجوب الفعلي، ويعبر عن الوجوب الفعلي بالمجعول، وعلى هذا الأساس كل استصحاب حكمي سوف يواجه هذه المعارضة فاستصحاب بقاء وجوب الجمعة الفعلي في زمن الحضور يعارض بأصالة عدم تشريع وجعل الوجوب بلحاظ المقار الزائد، وكلاهما لا يمكن أن يجريا لأجل المعارضة كما لا يمكن أن يجري أحدهما دون الآخر، وعليه فلا يمكن أن تشملهما صحيحة ( لا تنقض اليقين بالشك ).
المثال الثاني: - وطئ الحائض فإنه لا إشكال في أنه لا يجوز وطؤها مادام الدم ينزل منها ولكن بعد أن انقطع ولم تغتسل بَعدُ فهنا هل يجوز وطؤها أو لا؟ قد يقال: - نستصحب بقاء الحرمة السابقة، وهنا تأتي شبهة المعارضة فيقال إنَّ استصحاب تلك الحرمة الفعلية التي كانت في مان نزول الدم معارض بأصالة عدم تشريع الحرمة في الفترة الزائدة المشكوكة - وهي فترة انقطاع الدم - فنحن نعلم جزماً بأنَّ هناك تشريعاً للحرمة في فترة نزول الدم أما تشريع الحرمة في فترة انقطاع الدم فنشك فيه، فالاستصحاب للحكم الفعلي سوف يعارض باستصحاب عدم تشريع الحرمة بلحاظ الفترة الزائدة.
المثال الثالث: - وهو أنَّ الماء المتغير بالنجاسة هو نجس جزماً حتى لو كان بمقدار كر، فلو أنه زال تغيره من قبل نفسه فهل تزول النجاسة أو لا؟ هنا استصحاب النجاسة السابقة معارضة بعدم تشريع النجاسة بلحاظ فترة زوال تغير الماء من قبل نفسه.
المثال الرابع:- وهو استصحاب الملكية في باب المعاطاة، فإذا اشتر شخص شيئاً بالمعاطاة فسوف يصير ملكاً له ثم بعد ذلك رجع أحد الطرفين - من دون خيار - فنشك أنها معاملة جائزة أو لازمة فبعد رجوعه قد يستصحب بقاء الملكية السابقة وأنها لم تنقطع، فهنا يقال إنَّ هذا الاستصحاب - وهو استصحاب الملكية التي هي حكم وضعي - معارض بأصالة عدم جعل الملكية في المعاطاة في الفترة الزائدة - أي فترة ما بعد رجوع الطرف الآخر - فنشك هل جعلت المليكة أو لا فذلك الاستصحاب يكون معارضاً بهذا الاستصحاب، ففي كل شبهةٍ حكميةٍ إلى جنب استصحاب بقاء الحكم الفعلي يأتي استصحاب عدم الجعل بالمقدار الزائد.
وهذا الإشكال لو تم فهو لا يختص بالاستصحاب في باب الأحكام التكليفية وإنما يأتي في باب الأحكام الوضعية أيضاً كما مثلّنا باستصحاب الملكية في باب المعاطاة.
ثم إنَّ السيد الخوئي(قده) ذكر ثلاثة استثناءات من فكرة المعارضة وعدم جريان استصحاب الحكم المورد: -
الاستثناء الأول: - الشبهة الموضوعية، حيث قال:- إنَّ هذه المعارضة تتم في الشبهة الحكمية الكلية ولا تتم في الشبهة الموضوعية، كما إذا فرضنا أنَّ المرأة شك هل انقطع دمها أو لا فهذه شبهة موضوعية لا حكمية، فإنَّ الحكم معلومٌ وهو أنه مادام الدم موجوداً فلا يجوز الوطئ، ولكن نحن نشك هل انقطع دمها أو لا ففي مثل هذه الحالة لا تأتي المعارضة بل يجري الاستصحاب الأول من دونة معارضة، فيشير إليها ويقول هذه المرأة كان لا يجوز وطؤها والآن نشك فنستصحب عدم جواز الوطئ، ولا يعارض بأصالة عدم الجعل الزائد فإنَّ الموضوعات الجزئية ليس فيها جعلٌ شرعي وإنما الجعل والتشريع ينصب على الموضوعات الكلّية - أي أنَّ الحائض التي ينزل دمها لا يجوز الوطئ والحائض التي انقطع دمها يجوز ذلك - أما الجعل على الموضوع الجزئي فليس بموجود، وفي مثل هذه الحالة لا تتحقق معارضة وإنما يبقى استصحاب عدم الجواز السابق على حاله، وهذا ليس في صالح الزوج.
وقد يقال: - إنَّ المعارضة هي في صالح الزوج، لأنها لو حصلت فلا يجري استصحاب الحرمة لأجلها.
ولكن هذا باطل أيضاً: - فإنَّ المفروض أنه في مقامنا حيث إنه لا توجد معارضة فيجري استصحاب بقاء الحرمة السابقة، وبقطع النظر عنه - يعني حتى لو فرضنا أن المعارضة موجودة - يمكن أن نذكر استصحاباً آخر لإثبات الحرمة ولا يجري أصل البراءة، لأنه يشير إليها ويقول إنَّ هذه المرأة كان دمها لم ينقطع والآن أشك هل بَعدُ يخرج أو لا فيجري الاستصحاب الموضوعي وتصير النتيجة هي الحرمة أيضاً.