43/03/18
الموضوع: - الأدلة على حجية الاستصحاب - مبحث الاستصحاب - الأصول العملية.
وفي هذا المجال نطرح سؤالين: -
السؤال الأول: - لو أردنا أن نسلَّم بفكرة السيرة العملية على العمل بالاستصحاب كما سلّمها الشيخ النائيني أو السيد الشهيد بل ولعله حتى الشيخ الخراساني ولكن نقول كيف ينبغي أن ندّعي السيرة حتى تصير حجة؟! فإنا نعلم بأنَّ سيرة العقلاء لا حجية لها إلا بالإمضاء الشرعي، فهي تكتسب حجيتها من الإمضاء الشرعي، فلابد إذاً أن ندّعي السيرة بشكلٍ تكون معه قابلة للإمضاء الشرعي، والشبهة التي تدعو إلى طرح هذا السؤال هو أنَّ عمل العقلاء بالاستصحاب في قضاياهم العقلائية هي قضية تهم العقلاء ولا تؤثر على الشارع شيئاً، فكيف ندَّعي أنه يلزم على الشرع أن يردع عنها مادامت هي في المجال العقلائي؟، فمثلاً إذا شككنا أنه يوجد درس اليوم أو لا فالسيرة جارية على وجوده، وما شاكل ذلك من القضايا، ولكن هذه قضية في المجال الذي يرتبط بالعقلاء، ومثل هذه السيرة لا تهم الشارع سلباً أو إيجاباً حتى يلزم من سكوته عنها الإمضاء، فإذاً نحن لابد وأن ندّعي السيرة بشكلٍ يلزم على الشارع أن يردع عنها لو لم يرتضِها في الأحكام الشرعية، أما كيف ندّعيها كذلك؟
ذلك بأحد أشكالٍ ثلاثة: -
الشكل الأول: - أن ندَّعي بأنَّ العقلاء انعقدت سيرتهم على العمل بالحالة السابقة في القضايا العقلائية وفي القضايا الشرعية معاً، فحتى في القضايا الشرعية ندّعي أنَّ العقلاء يعملون بالحالة السابقة حتى زمن الأئمة عليهم السلام، كما لو شك شخصٌ في بقاء وضوءه فإنه يبني على بقائه، فالعقلاء حتى في مجال الأحكام الشرعية يطبقون الاستصحاب، فنقول إنَّ هذه السيرة إذا لم يرتضِها الشرع فلابد وأن يردع عنها لأنها تضرّه إذا كانت باطلة عنده.
الشكل الثاني: - أن نقول إنَّ العقلاء جرت سيرتهم في قضاياهم العادية على تطبيق الاستصحاب، ولكن يتخوَّف في يوم من الأيام من تطبيقهم هذه السيرة من المجال الشرعي أيضاً، فلو لم يرتضِها الشرع في المجال الشرعي يلزم أن يردع عنها مسبقاً خوفاً من تسرّبها إلى المجال الشرعي.
الشكل الثالث:- أن ندّعي بأنَّ العقلاء قد جرت سيرتهم في الأغراض التكوينية وفي الأغراض التشريعية على العمل بالاستصحاب، والفرق بين الأغراض التكوينية والأغراض التشريعية هو أنَّ الغرض التكويني ما يرتبط بالشخص نفسه، فإذا فرض أن شخصاً كان عنده سيارة في مكانٍ معين والآن شكَّ في ذلك فإنه يبني على بقائها في مكانها السابق، وأما الأغراض التكوينية فهي الأغراض التي تكون بين المولى والعبد أو الأب والابن، يعني آمرٍ ومأمور وإن لم يكن الآمر هو الشرع، فنقول إنَّ العقلاء قد انعقدت سيرتهم على العمل بالاستصحاب في الأغراض التكوينية والتشريعية معاً - ولعل هذا الشكل مقاربٌ بنحوٍ ما للشكل الثاني - وإذا كان الشارع لا يرتضي بهذه السيرة في قضاياه الشرعية يلزم عليه أن يردع خوفاً من تسريتها من مجال الأوامر والتكاليف بين الأب والابن مثلاً إلى المجال الشرعي.
وبعد أن اتضحت هذه الأشكال الثلاثة نقول: -
أما الشكل الأول: - فنقول إنَّ هذه دعوى يصعب اثباتها.
وأما الشكل الثاني: - فهو الصحيح وهو أوجه الأشكال الثلاثة، وبناءً عليه فنقول: - حيث إنَّ العقلاء قد جرت سيرتهم على العمل بالاستصحاب في مجالاتهم التكوينية فإذا لم يرتضِ الشارع ذلك في المجالات الشرعية فيلزم على الشرع الحكيم أن يردع عنها خوفاً من تسرّبها إلى المجال الشرعي، فعدم نهيه يدل على أنه يرضى بتسريتها إلى المجال الشرعي.
وقبل أن ننتقل إلى السؤال الثاني نلفت النظر إلى مطلبين: -
المطلب الأول: - إنَّ من يجعل المدرك هو السيرة العقلائية فحيث إنَّ العقلاء يعملون بالاستصحاب في موارد الظنّ بالبقاء فيلزم أن نخصّص حجية الاستصحاب بمورد الظنَّ بالبقاء فقط، وهذه قضية ينبغي أن يلتفت إليها كل من يستند إلى السيرة العقلائية في اثبات حجية الاستصحاب، فنقول له: - إنَّ لازم استنادك إلى سيرة العقلاء في حجية الاستصحاب أن تحمل أخبار ( لا تنقض اليقين بالشك ) على صورة الظنّ بالبقاء، أما إذا لم يكن هناك ظنّ بالبقاء فحينئذٍ لا يمكن العمل بالأخبار آنذاك.
ولعلك تقول: - صحيح أنَّ السيرة ضيّقة وهي تختص بحالة الظن بالبقاء فإنَّ العقلاء لا يعملون بالحالة السابقة إلا مع الظن بالبقاء ولكن ما المانع في أن يحكم الشارع بحجية الاستصحاب في المجال الأوسع حتى إذا لم يكن هناك ظن بالبقاء، فإذا أردنا أن نأخذ بالأخبار فسوف نأخذ بإطلاقها بعرضه العريض حتى وإن لم يكن هناك ظنٌّ بالبقاء.
وفي الجواب نقول:- إنَّ الوارد في أخبار لا تنقض اليقين بالشك تقول هكذا:- ( فإنه لا ينبغي نقض اليقين بالشك )، والتعبير بكلمة ( لا ينبغي ) إشارة إلى أنَّ هذا مطلق عقلائي والشرع يريد أن يمضي ما عليه العقلاء، فيلزم على من يدّعي انعقاد السيرة العقلائية على العمل بالاستصحاب أن يخصّص الأخبار بمورد الظن بالبقاء، لأنَّ الأخبار لا تريد أن تمضي الاستصحاب بأكثر من مجاله العقلائي إذ قالت الأخبار ( لا ينبغي لك نقض اليقين بالشك )، فالأخبار تريد أن تمضي ما عليه العقلاء، فتختص الحجية بحالة الظن بالبقاء فإذا لم يوجد ظنّ بالبقاء فلا يمكنه التسّمك بالاستصحاب، والالتزام بهذا شيء صعب، فأننا حينما نستند إلى الأخبار نقول للمكلف لقد كان عندك يقينٌ سابق بالوضوء والآن تشك فابنِ على البقاء، وحتى لو قال أنا لا أظنّ بالبقاء ولكن رغم ذلك نقول له إنَّ هذا غير مهم لأنَّ الأخبار من هذه الناحية مطلقة وهي تقول ( لا تنقض اليقين بالشك )، فنعمل بالاستصحاب حتى إذا لم يوجد ظنّ بالبقاء.