الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

43/03/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - النقطة الرابعة ( هل الاستصحاب أصل أو أمارة )، النقطة الخامسة ( هل في مقام أخذ النسبة بين الاستصحاب وغيره من الأدلة نلحظ نفس الاستصحاب أو نلحظ دليله مع تلك الأدلة الأخرى؟ ) - مبحث الاستصحاب - الأصول العملية.

النقطة الرابعة: - هل الاستصحاب أمارة أو أصل؟

وفي البداية لابد أن نعرف الفرق بين الأصل وبين الأمارة:- والفرق بينهما هو أنَّ الحكم الظاهري - أعني حجية الشيء - تارة ينشأ من قوة في الاحتمال وأخرى ينشأ من قوة في المحتمل، فمثلاً حجية الخبر وحجية البينة هي ناشئة من قوة في الكشف – أي في الاحتمال - وليس من قوة المحتمل فإنَّ المحتمل مختلف وليس بمنضبط، فالقوة هي للكشف والحجية نشأت من قوة الكشف، ومثال ما ينشأ من قوة المحتمل هو الأصل كأصل البراءة، فإذا شككنا بأنَّ التدخين حلال أو حرام فأصل البراءة يقول ( كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام )، وهذه الحلّية لم تنشأ من قوة الكشف، لأنه لا يوجد طريق وكشف، وإنما نشأت من قوة المنكَشَف بقطع النظر عن قوة الكاشف، إذ لا يوجد كاشف حتى يكشف البراءة، وإذا قلت:- إنَّ أصل البراءة هو كاشف، قلنا:- إنَّ أصل البراءة هو تعبير أصولي ولكن لنحذف كلمة ( أصل ) ونقول ( براءة ) فقط، فنحكم بالبراءة فأين الكاشف؟!! فإنه ليس بموجود حتى نقول توجد قوة في الكشف.

فإذاً عرفنا أنَّ الفارق بين الأصل وبين الأمارة هو أنَّ الشيء تارة تنشأ حجيته من قوة في كاشفيته وهذا هو الأمارة، كما في البيّنة وخبر الثقة وما شاكل ذلك، وأخرى تنشأ من قوة في المنكَشَف[1] بقطع النظر عن الكاشف - أي تارة تنشأ من قوة المحتمل وأخرى من قوة الاحتمال - فإذا نشأت الحجية من قوة المحتمل فهذا أصل.

ثم إنَّ الأصل له ثلاثة أفراد: -

الأول: - ما أشرنا إليه، كأصل البراءة الذي ينشأ من قوة المحتمل من دون وجود قوة في الاحتمال، إذ لا يوجد طريق حتى يكون فيه قوة في الاحتمال والكشف.

الثاني:- ما ينشأ من قوة الاحتمال ولكن من دون ملاحظة قوة الاحتمال هذه، كما هو الحال في أصل البراءة في الشبهات الموضوعية البدوية، فيقول ( لك كل شيء تشك في حليته فهو محكوم بالحلية )، فهنا حكم المولى بالحلّية لقوة الاحتمال، فإنَّ المولى ينظر إلى دائرة المشتبهات ولنفترض أنَّ عددها ألف، فهو حينما ينظر إلى الألف يرى أنَّ الطابع العام لها هي مباحات والنادر يكون من المحرّمات فيحكم حينئذٍ في حالة الشك بالحلّية والاباحة لا لقوة الاحتمال ولكن قوة الاحتمال هذه نشأت من كثرة المباحات في نظر المولى بالقياس إلى المحرّمات، يعني إذا كانت ألفاً فثمانمائة منها في نظر المولى مباحات ومائتان من المحرّمات فيصير حينئذٍ احتمال الاباحة في هذا المشكوك أقوى بسبب كثرة أفراد المباحات بالنسبة إلى المحرّمات في نظر المولى، إنه في مثل هذه الحالة يحكم المولى بالإباحة لقوة الاحتمال.

الثالث:- أن لا يلحظ المحتمل ولا الاحتمال، كما هو الحال في باب الاستصحاب، فالمولى يقول ( كلما تيقنت بوجود شيء وشككت في بقائه فاحكم ببقائه )، فهنا لا يلحظ المولى قوة الاحتمال إذ لا يوجد شيء معين ينظر إليه وإنما الأشياء مختلفة، فبعضها قصيرة العمر وبعضها متوسط العمر وبعضها طويل العمر، فهو لا يلحظ قوة الاحتمال، كما لا يلحظ المحتمل أيضاً، لأنَّ المحتمل مختلف في باب الاستصحاب ولا يوجد شيء معين يراد اجراء الاستصحاب بلحاظه فيحكم ويقول سر على طبق الحالة السابقة، فهنا لم ينظر المولى إلى قوة الاحتمال ولا إلى قوة المحتمل.

[[ النقطة الخامسة: - هل في مقام أخذ النسبة بين الاستصحاب وغيره من الأدلة نلحظ نفس الاستصحاب أو نلحظ دليله مع تلك الأدلة الأخرى؟

وفي توضيح الحال نقول:- إذا كان عندنا خبر ثقة يعارض خبر ثقة آخر ففي مقام أخذ النسبة وأنها نسبة التباين بين الخبرين أو نسبة العموم والخصوص هل نلحظ مدلول هذا الخبر مع مدلول ذاك الخبر من دون إدخال دليل حجية خبر الثقة في الحساب أو أننا ندخله في الحساب، وما هو المناسب والصحيح؟، فإنه بعد البناء على حجية خبر الثقة نلاحظ مدول هذا الخبر مع مدلول ذاك الخبر بقطع النظر عن دليل حجية خبر الثقة في الطرفين، هذا بالنسبة إلى الأخبار المتعارضة، ولكن سؤالنا هو بالنسبة إلى الاستصحاب، فحينما نلحظ الاستصحاب مع دليلٍ آخر فهل نلحظ نفس الاستصحاب مع الدليل الآخر أو أننا نلحظ دليل حجية الاستصحاب مع الدليل الآخر؟

يظهر من بعض السادة الفحول الذين نقل عنهم الشيخ الأعظم في الرسائل ويقصد بذلك السيد بحر العلوم أنَّ الصحيح في باب الاستصحاب هو ملاحظة الاستصحاب مع الدليل الآخر بقطع النظر عن دليل حجية الاستصحاب، فلا ندخل دليل حجية الاستصحاب في الحساب وإنما نلحظ النسبة بين نفس هذا الاستصحاب ماذا يقتضي وبين الدليل الآخر من دون ملاحظة دليل حجية الاستصحاب ومن دون أخذه بعين الاعتبار في حساب المعارضة، قال الشيخ الأعظم:- ( هذا وقد جعل بعض السادة الفحول الاستصحاب دليلاً على الحكم في مورده وجعل قولهم عليهم السلام لا تنقض اليقين بالشك دليلاً على الدليل نظير آية النبأ بالنسبة إلى خبر الواحد )[2] .

وهذا الكلام يصير جارياً سيالاً في الأصول الأخرى مثل أصالة الحل مع الاستصحاب، فنحن نشك في شيء هل هو حلال أو حرام فأصالة الحل تقتضي حلّيته واستصحاب الحرمة - إذا كان موجوداً - يقتضي الحرمة، فالمناسب على ما أفاده السيد بحر العلوم أننا نلحظ النسبة بين أصالة الحل بقطع النظر عن دليل حجيه وبين الاستصحاب، وحيث إنَّ الاستصحاب أخصّ من أصل الحل، لأنَّ الاستصحاب مشروط بوجود الحالة السابقة مثلاً - هكذا قد يقال - فيقدَّم الاستصحاب على أصل الحل بالأخصّية.

ولعل ما ذكره السيد بحر العلوم يختص بخصوص الاستصحاب دون بقية الأصول، من باب أنَّ الاستصحاب يمكن عدّه أمارة، يعني أنَّ اليقين السابق أمارة على البقاء الحالة السابقة، والأمارة مقدمة على الأصل، فيتقدم الاستصحاب على بقية الأصول من باب أنه أخصّ حيث أخذ فيه معلومية الحالة السابقة والشك في بقائها، فيصير مورده أخص من ( كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام ).

وأشكل الشيخ الأعظم(قده) على السيد بحر العلوم(قده) وقال: - يوجد فارق بين الاستصحاب وبين خبر الثقة، فخبر الثقة دليل على الحكم بينما الاستصحاب هو بنفسه حكم - يعني ( لا تنقض اليقين بالشك ) هو حكم -، وعليه لا يمكن أن نقيس الاستصحاب على خبر الثقة، فخبر الثقة دليل على الحكم بخلاف الاستصحاب، فلا معنى لأن يقال كما أننا نأخذ النسبة بين خبر الثقة وبقية الأدلة كذلك نأخذ النسبة بين الاستصحاب وبقية الأصول، وإنما خبر الثقة دليل على الحكم فيمكن أخذ النسبة بينه وبين ما يقابله، لأنَّ خبر الثقة دليل على الحكم، وهذا بخلاف الاستصحاب فإنه بنفسه حكم وليس دليلاً على الحكم.

ويوجد رأي ثالث للسيد الخميني(قده) في رسائله[3] :- وحاصله التفصيل بين ما إذا قلنا بأنَّ الاستصحاب أمارة كخبر الثقة فيلزم أن يكون حاله حال خبر الثقة، فكما في خبر الثقة نأخذ النسبة بينه وبين الدليل الآخر كذلك في الاستصحاب نأخذ النسبة بينه وبين الدليل الآخر، وأما إذا قلنا بأنه أصلٌ صِرفٌ وليس دليلاً على الحكم فالنسبة تؤخذ بين دليل الاستصحاب -وهو ( لا تنقض اليقين بالشك ) - وبين ذلك المعارض للاستصحاب.

والمناسب أن يقال:- لا معنى لأخذ النسبة بين نفس الاستصحاب والدليل المعارض، فإنَّ طرح هذا السؤال ليس بصحيح، فإنَّ النسبة تؤخذ بين ما صدر من المعصوم عليه السلام في هذا المورد وبين ما صدر منه في ذلك المورد الآخر، فالنسبة تلحظ بين كلامي المعصوم عليه السلام فإنه هو الدليل، فمن المناسب دائماً أن نلحظ النسبة بين ( لا تنقض اليقين بالشك ) الذي هو دليل الاستصحاب وبين دليل أصل الطهارة الذي هو ( كل شيء لك طاهر ... ) ولا معنى لأخذ النسبة بين الاستصحاب الذي استفدنا حجيته من كلام المعصوم عليه السلام وبين الآخر.

وعليه يتضح التأمل فميا أفاده السيد بحر العلوم(قده) فإنه يعلَّق عليه ويقال: - إنَّ الذي صدر من المعصوم هو لا تنقض اليقين بالشك فلابد من ملاحظة النسبة بين دليل الاستصحاب الصادر من المعصوم مع الدليل الآخر لا كما أفاده السيد بحر العلوم.

كما أنه يتأمل أيضاً فيما أفاده السيد الخميني(قده) من التفصيل: - بل المناسب على ما ذكرنا أن تكون النسبة بين الكلامين الصادرين من المعصوم عليه السلام من دون فرقٍ بين أن نبني على أنَّ الاستصحاب أمارة أو أصل وإنما المناسب ملاحظة دليله مع الدليل المعارض وهذا التفصيل لا مجال له.

كما اتضح التأمل فيما أفاده الشيخ الأعظم(قده): - ووجه التعليق على ما أفاده أن يقال إنه لا فرق بين أن نبني على كون الاستصحاب أمارة أو أصل، فبالتالي من المناسب أن نلاحظ ما صدر من المعصوم عليه السلام، والصادر هو ( لا تنقض اليقين بالشك ) سواء قلنا بأنَّ الاستصحاب أمارة أو هو أصل، فتلحظ النسبة بين هذا الدليل - الذي هو ( لا تنقض اليقين بالشك ) - مع الدليل الآخر ولا معنى لما ذكره من التفصيل، بل نقول إنه على التقديرين لابد وأن يلحظ دليل الاستصحاب مع دليل الحكم الآخر فإنَّ النسبة تلحظ بين الدليلين الصادرين من المقنّن والمشرّع وما سوى ذلك لا معنى له. ]][4]

وبهذا انتهينا من المقدَّمات الخمس وندخل في الأدلة على حجية الاستصحاب.


[1] ومن الواضح أننا نعبر بالمنكشف والحال أنه لا يوجد كاشف وهذا فيه شيء من المسامحة ولن تجاوز هذا التسامح.
[2] فرائد الأصول، الأنصاري، ج3، ص19.
[3] رسائل السيد الخميني، ج1، ص74، في ( رسالة في الاستصحاب.).
[4] هذا ما استدركه الشيخ الاستاذ في المحاضرة التالية تتميماً لهذا الدرس – وهو ذكر تمام النقطة الخامسة – وقد أرجعته إلى موضعه المناسب كما أرجعت ما ذكره هنا من مقدمة للأدلة على حجية الاستصحاب إلى المحاضرة التالية فيبغي الالتفات إلى ذلك، لأنَّ التسجيل الصوتي للدرس سوف لا يتطابق مع التقرير في هذه المحاضرة والمحاضرة التي تليها/ المقرر.