الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

43/03/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - الفارق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين - مبحث الاستصحاب - الأصول العملية.

وأما إذا كان الاستصحاب عدمياً والذي تختلف فيه النتيجة مع قاعدة المقتضي والرافع فيمكن أن يقال:- إنه عند الاختلاف في النتيجة بين الاستصحاب العدمي وقاعدة المقتضي والرافع إنَّ المقدَّم هو قاعدة المقتضي والرافع، من باب أنَّ ما يجري في العلَّة يكون مقدَّماً على ما يجري في المعلول، فإنَّ قاعدة المقتضي ناظرة إلى المقتضي وإذا كان المقتضي ثابتاً فغالباً تكون الموانع مرتفعة، فيتقدّم حينئذٍ فنحكم بتحقق المقتضى، وما يجري في العلَّة يكون مقدَّماً على ما يجري في المعلول فإنَّ الاستصحاب يجري في نفس الطهارة التي هي معلول بينما قاعدة المقتضي والرافع تجري في العلَّة - أي في المقتضي - فهي تقول مادام المقتضي موجود فإذاً المقتضى ثابت فيتقدَّم ما تدل عليه القاعدة لأنها ناظرة إلى العلة وما يكون ناظراً إلى العلة - المقتضي - يكون متقدّماً على ما يكون ناظراً إلى المعلول، إذ الاستصحاب ناظراً إلى المعلول وهو الطهارة أما قاعدة المقتضي فهي ناظرة إلى العلة، وما يجري في العلة - المقتضي - يكون متقدّماً على ما يكون ناظراً إلى المعلول باعتبار أنَّ المعلول تابع للعلَّة.

فإذاً اتضح أنه توجد فوارق بين الاستصحاب وبين هذه القواعد الثلاث.

النقطة الرابعة: - هل الاستصحاب أصل أو هو أمارة؟

وفي البداية لابد وأن نعرف الفارق بين الأصل والأمارة:- والفرق بينهما على ما تقدم هو أنَّ حجية الأمارة ناشئة من قوة الكشف فإنَّ فيها كشفاً قوياً، فما كان فيه كشف قوي وجعلت الحجية لقوة الكشف فهذا يكون أمارة، وأما إذا فرض أن الحجية لم تنشأ من قوة الكشف وإنما نشأت من قوة المحتمل في حدّ نفسه بقطع النظر عن قوة الاحتمال والكشف فهذا عبارة عن الأصل، ولعل الوجدان شاهد وحاكم بما ذكرنا، فخبر الثقة مثلاً نحن نأخذ به لقوة كشفه عن الواقع، فإذا أخبر الثقة بشيءٍ ففيه قوة كشف سبعين بالمائة مثلاً، فلأجل لقوَّة الكشف يؤخذ به، فهذا أمارة، وأما لو فرض أنا شككنا بأنَّ هذا الشيء طاهر أو نجس فالكشف هنا ليس بموجود وإنما نقدّم الطهارة من باب قوة المنُكَشَف، أما من أين نشأت هذه القوة فهذه قضية ثانية ولو لأجل التسهيل على العبادة أو لكناتٍ أخرى متعددة ولكن بالتالي لا لأجل قوة الكشف وإنما لأهمية المنكَشَف، فإذا كانت الحجية ناشئة من قوة الكشف فهذا عبارة عن الأمارة، وإذا كانت الحجية ناشئة من أهمية المنكشف فهذا عبارة عن الأصل، والفرق بهذا البيان هو فرق عقلائي قبل أن نذكر له دليلاً، فغن العقلاء يأخذون ببعض الأمور لقوة كشفها وبعضها الآخر يأخذون بها لا لقوة كشفها بل لأهمية الشيء في حدّ نفسه - المنكَشَف[1] -، فإذاً الفرق بين الأصل وبين الأمارة واضح، فكل دليل نشأت حجية العقلائية أو الشرعية من قوة كاشفيته فهو أمارة عند العقلاء وعند الشرع، وكل دليل نشأت حجيته من أهمية المنكَشَف فهو عبارة عن الأصل.

ونقول شيئاً ثانياً:- وهو أنه حينما نقول إذا كانت هناك قوة في الكشف ليس المقصود هو قوة الكشف بلحاظ مجموع الموارد، يعني أنَّ خبر الثقة حينما نأخذ به فنحن نأخذ به لأجل أنه حينما أخبرني الثقة فلخبره قوّة كشف بلحاظ هذا المورد، نعم له قوة كشف في المورد الثاني وله قوة كشف في المورد الثالث ولكن أنا آخذ به لثبوت قوة الكشف في هذا المورد بالخصوص، وآخذ به في المورد الثاني لقوة الكشف في المورد الثاني بالخصوص ... وهكذا، وهذا بخلافه في باب الأصل فإنَّ الحجية نشأت من الأهمية ولكن ليست الأهمية في هذا المورد بالخصوص أو قوة الكشف في هذا المورد بالخصوص أو قوة المحتمل في هذا المورد بالخصوص وإنما بلحاظ مجموع الموارد، فالمولى ينظر إلى مجموع الموارد المشكوكة ويرى أنَّ الغالب فيها هو الطهارة مثلاً فٍحينئذٍ يجعل أصل الطهارة لقوة الكشف بلحاظ المجموع أو لنكتة أخرى كالتسهيل على العبادة فيجعل حينئذٍ أصل الطهارة ولكن بلحاظ الجموع، فالملحوظ هو المجموع، وهذا بخلافه في الأمارة فإنَّ الحجية فيها نشأت من قوة الكشف بلحاظ هذا المورد بالخصوص.

ويترتب على هذا الفرق الذي ذكرناه - وهو شيء مهم - وهو أنه بناءاً على هذا صارت الأمارة حجة في لوازمها ولم يصر الأصل حجة في لوازمه، والنكتة هي أنَّ الأمارة لها كاشفية عن موردها الخاص بدرجة سبعين بالمائة مثلاً وكذلك لها كاشفية عن اللازم بنفس هذه الدرجة، فإذا كانت حجة بلحاظ الملزوم - أي في موردها - كانت حجة أيضاً بلحاظ اللازم إذ درجة الكشف متساوية فيهما معاً، يعني أنَّ درجة كاشفيتها بلحاظ موردها تعادل درجة كاشفيتها عن لازم موردها، فمن هنا صارت الأمارة حجة في لوازمها، وهذا بخلافه في الأصل فإنه حتى لو كان له أهمية وجعلت حجيته من ناحية أهمية الطهارة بلحاظ النجاسة - فبلحاظ هذه الأهمية شُرّع أصل الطهارة - ولكن هذه الأهمية ليست أهميةً بلحاظ هذا المورد بخصوصه وإنما بلحاظ مجموع الموارد، وهذا لا يلزم منه أن يصير الأصل حجة بلحاظ لوازمه.

وهناك حالة ثالثة:- وهي أن تكون الأهمية لا للكشف فقط ولا للمنكَشَف فقط وإنما يكون الأصل ناشئاً من أهمية الاثنين معاً ، يعني المولى يلاحظ المورد فيرى أهميةً في درجة الكشف ويرى أهميةً للمحتمل أيضاً، فإذا كان الأصل من هذا القبيل فالمناسب في مثل هذه الحالة أن لا يصير الأصل حجة في لوازمه، باعتبار أنَّ قوة الكشف ليست بلحاظ هذا المورد وإنما بلحاظ مجموع الموارد وأيضاً لم يلحظ قوة المنشف في هذا المورد بل بلحاظ مجموع الموارد فمن هنا لم يكن مثل هذا الأصل حجة في لوازمه، وقد يعبر عن هذا الأصل بالمصطلح الأصولي بالأصل التنزيلي فهو أيضاً لا يكون حجة في لوازمه وإنما الذي يكون حجة في لوازمه هو الأمارة فقط، باعتبار أنَّ حجيتها نشأت من قوة كاشفيتها عن موردها بالخصوص، وهذه الكاشفية موجود أيضاً في اللازم بنفس الدرجة، فصارت الأمارة حجة في لوازمها أيضاً، بخلافه في الأصل بكلا قسميه، فسواء كان الأصل بحتاً أو كان تنزيلياً فحيث لم يلحظ المورد الخاص كما لم يلحظ الاحتمال فقط وإنما لوحظ المحتمل أيضاً فلا يكون الأصل حجة في لوازمه.


[1] والتعبير بالمنكشف فيه تساح لأنه في باب الأصل لا يوجد كاشف حتى نعبر بالمنكشف.