43/03/04
الموضوع: - مبحث الاستصحاب - الأصول العملية.
المقدمة الثالثة: - الفارق بين الاستصحاب وغيره.
وهنا نبين ثلاثة مطالب: -
المطلب الأول: - الفارق بين الاستصحاب المتداول المعروف وبين استصحاب القهقرى.
المطلب الثاني: - الفارق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين.
المطلب الثالث: - الفرق بين الاستصحاب وقاعدة المقتضي والمانع.
أما المطلب الأول: - فإنَّ الفارق بينهما هو أنه في الاستصحاب المعروف يكون زمان المتيقن متقدّماً وزمان الشك والمشكوك متأخراً، كما لو كنت على يقين من الطهارة صباحاً وشككت عند الظهر بانتقاضه، وأما استصحاب القهقرى فأمره بالعكس، أي أنَّ زمان اليقين هو الحال أما زمان الشك فيكون متقدّماً، وعادةً هذا يتصوّر فيما مرَّ في كتاب المعالم، حيث قال صاحب المعالم إنَّ صيغة افعل موضوعة للوجوب ودليلنا على ذلك أنه لا إشكال في أن المتبادر من صيغة افعل في زماننا هو الوجوب فإذا قلت للولد اكتب أو اذهب إلى السوق اشتر لنا كذا فصيغة افعل هذه نستفيد منها الوجوب في زماننا جزماً ولكن نشك في زمان صدور النص أنَّ صيغة أفعل تدل على الوجوب، وبضم أصالة عدم النقل يثبت المطلوب.
والذي نريد أن نقوله: - هو أنَّ أصالة عدم النقل هي عبارة أخرى عن استصحاب القهقرى، يعني نقول إنَّ المعنى الحالي لصيغة الأمر هو الوجوب فنرجع القهقرى إلى زمن النص فنشك أنَّ هذا المعنى كان موجوداً أو لا فنستصحب هذا المعنى من زمان الحال إلى زمان الماضي، فيثبت المطلوب.
فإذاً أصالة عدم النقل واستصحاب القهقرى هما مصطلحان يقصد منهما معنىً واحد.
والمعروف أنَّ استصحاب القهقرى ليس حجة، لأجل أنَّ اللوازم غير الشرعية للأصل ليست حجة، وإنما الحجة هي لوازم الأمارة، وعليه فاستصحاب القهقرى - الذي هو أصالة عدم النقل - لا ينفع شيئاً.
والنتيجة:- أنَّ استصحاب القهقرى لا يمكن أن يثبت أنَّ المعنى لصيغة الأمر في عصر النص كان هو الوجوب، فحتى لو فرض إنَّ استصحاب القهقرى هو نحو من الاستصحاب كسائر الاستصحابات المتعارفة ولكن لوازم المستصحب أو الاستصحاب ليست حجة، فنحن هنا نستصحب هذا المعنى الثابت في الزمان الحالي إلى الزمان السابق وهذا أقصى ما يثبته هو أنَّ هذا المعنى كان موجوداً سابقاً، ولازمه أنَّ المراد منه إذاً هو هذا المعنى المفهوم الآن وهو الوجوب، وهذا ليس لازماً شرعياً، فعلى هذا الأساس لا يمكن التمسك باستصحاب القهقرى - أو أصالة عدم النقل - لكونه أصلاً مثبتاً.
ولكن توجد محاولة لإثبات إمكان التمسك باستصحاب القهقرى وهي أن نقول: - يمكن أن نتمسك باستصحاب القهقرى لإثبات وحدة المعنى وأنَّ صيغة اِفعل معاناها الوجوب في زماننا وهذا ثابت بالوجدان، وكذلك معناها هو الوجوب أيضاً في زمان صدور النص من خلال استصحاب القهقرى، وذلك بأن يقال: - إننا إذا استصحبنا المعنى الموجود الآن إلى الزمان السابق فسوف يثبت أنَّ المعنى واحد وبالتالي المتكلم يريد هذا المعنى الواحد، وحينئذٍ نقول:- نحن يمكن نجري الاستصحاب بشكلٍ آخر، يعني لا نستصحب هذا المعنى الحالي إلى الزمان المتقدّم وإنما توجد طريقة أخرى، وهي أن نستصحب بشكلٍ آخر فنقول:- إنَّ صيغة اِفعل كان لها في زمان صدور النص معنىً خاص جزماً ونشك الآن في بقاء ذلك المعنى فنستصحب بقاء ذلك المعنى، ولكن يبقى شيء وهو أنَّ ذلك المعنى مجمل لا نعرفه وقد تقول إنه بناءً على هذا فسوف لا ينفعنا هذا الاستصحاب؟ ولكن نقول: - وحيث إنَّ المعنى في زماننا هو الوجوب فيثبت باستصحاب ذلك المعنى السابق إلى زماننا أنَّ ذلك المعنى هو الوجوب أيضاً.
وهذا الجواب بهذا المقدار يكون الاشكال عليه واضحاً حيث يقال:- إنَّ هذا اللازم[1] ليس لازماً شرعياً وإنما هو لازم عادي، فيكون أصلاً مثبتاً.
وفي مقام التغلّب على هذا الاشكال قد يجاب ويقال: - إنه يلتزم بأنَّ هذا الاستصحاب - أي استصحاب بقاء المعنى السابق - هو أمارة، وحيث أنَّ لوازم الأمارة حجة فيثبت أنَّ هذا الاستصحاب حجة في لوازمه، والوجه في كون هذا الاستصحاب أمارة أنَّ هاذا الاستصحاب يرجع في روحه إلى الغلبة، يعني أنَّ الغالب في كل شيءٍ كان ثابتاً سابقاً أن يبقى إلى الزمن الحالي، كما لو كنّا نعلم بأنَّ فلان يسكن في المنطقة القديمة فلو عدنا بعد سنة فسوف نذهب إلى بيته في المنطقة القديمة ولا نحتمل أنه انتقل إلى مكانٍ آخر - وإن كان هذا التشبيه فيه تأمل -، فالغالب في خصوص معاني الألفاظ أنها تستمر ولا تتغير والتغير فيها يكون بطيئاً، فلا يعتنى لاحتمال التغير، فيبنى على بقاء المعنى السابق وأنه مستمر إلى زماننا، فإذا كان المنشأ هو هذه الغلبة فهي تجعل استصحاب بقاء المعنى أمارة، لأنَّ روح هذا الاستصحاب يرجع إلى هذه الغلبة، وحيث إنَّ الغلبة تشكل عنوان الأمارة فيكون استصحاب بقاء المعنى السابق أمارة، ولوازم الأمارة حجة، فيثبت بذلك أنَّ ذلك المعنى الذي استصحبناه هو الوجوب، ويتم ما ذكره صاحب المعالم.