الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

42/11/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - التنبيه التاسع ( تعارض الضررين بأنحائه الأخرى ) - تنبيهات قاعدة لا ضرر – شرائط جريان الأصول العملية.

موقف الثالث عند تعارض الضرر بين شخصين: - وفي هذا المجال نتعرض إلى صور ثلاث: -

الصورة الأولى: - أن يفترض تعارض الضررين بالنسبة إلى المال دون النفس، كما لو فرض مجيء سيل وخفت منه على سيارة جاري الأول وسيارة جاري الثاني.

الصورة الثانية: - أن يفترض أنَّ الضرر متوجه إلى شخصين، فإنَّ الطبيب أحياناً يدور الأمر عنده بين أن يقتل الأم أو يقتل الطفل لأنه لا يمكن أن يبقيا معاً على قيد الحياة، فإن بقي الطفل فسوف تموت الأم وبالعكس فإن بقاء أحدهما على قيد الحياة يستلزم موت الآخر، أو إذا جاءوا بجريحين من جبهة القتال ودار أمر الطبيب بين أن ينقذ الأول مع موت الثاني أو بالعكس.

الصورة الثالثة: - أن يفترض عدم تدخل الطبيب في البين وإنما كانت الطبيبة حاملاً ودار أمرها بين أن تنقذ حياتها بموت الطفل وذلك بأن تزرق إبرة فيموت الطفل بالقضاء الإلهي من دون أن تكون سبباً لقتله أو أنها لم تزرق تلك الابرة فيبقى الطفل حياً ولكنها تموت.

أما الصورة الأولى: - فلابد أن نلتفت من البداية إلى أنَّ التحفّظ على أموال الناس ليس بواجب إذ لا دليل على وجوبه، نعم الواجب هو التحفّظ على نفوسهم، ولكن من الراجح والمستحب التحفّظ على أموالهم، فهنا إذا جاء السيل ودار الأمر بين أن تغرق سيارة الجار الأول أو سيارة الجار الثاني فلا يجب عليه التحفّظ على أحد السيارتين حتى وإن أمكنه ذلك، لأنه لم يدل دليل على وجوب هذا الفعل، نعم هو أمر راجح ويؤجر عليه أما كونه ثابتاً بنحو الوجوب فلا، كما أنَّ هذا الفعل راجح ومسحب فيما إذا أحرز رضا صاحب المال الذي أريد انقاذه، أما إذا لم يحرز رضاه فلا يجوز إنقاذه، لأنه تصرف في مال الغير وهو لا يجوز.

وأما الصوة الثانية: - فأما بالنسبة إلى مثال المرأة الحامل فالمناسب للطبيب أن يصبر حتى يقضي الله عزَّ وجل، وهذا ما ذهب إليه السيد اليزدي(قده)، قال:- ( ولو خيف مع حياتهما على كلٍّ منهما انتظر حتى يقضى ). [1]

ولو قيل: - لماذا ينتظر الطبيب القضاء الإلهي بل عليه أن يتصرف؟

قلنا: - إذا تمكن الطبيب من إنقاذ الاثنين معاً فيجب عليه التصرّف رأساً، لأنَّ التحفظ على حياة المؤمنين واجب لمن يتمكن من ذلك، أما حسب فرضنا فالطبيب لا يتمكن من ذلك وإنما يلزم أن يقتل أحدهما حتى ينجو الآخر من الموت، فهنا لا يجوز له التصرف لأنَّ هذا قتل للنفس وهو لا يجوز، بل عليه أن ينتظر حتى يقضي الله عزَّ وجل، وحتى لو كان عند المرأة أولاد آخرين فهذا الأمر لا يجوز أيضاً لأنَّ المورد من الدوران بين حياتين، فلا يجوز قتل النفس المحترمة، فلا يجوز للطبيب أن يقتل أحدهما وإنما عليه أن ينتظر قضاء الله عزَّ وجل.

نعم لو فرض أنَّ الأم وطفلها المولود وقعا في الماء ودار الأمر بين إنقاذ الأم أو إنقاذ الطفل ولم يمكن إنقاذهما معاً فهنا الطفل ليس حملاً في بطن أمه، فهنا لا يوجد قتل وإنما هذا إنقاذٌ لحياة أحدهما، فيكون المكلف مخيّراً بين انقاذ الأم أو إنقاذ طفلها.

ولا تقل: - إنَّ هذا قتل لأحدهما ولا يجوز التسريع في القتل.

قلت: - إنَّه في الصورة السابقة قتل ولا يجوز التسريع في القتل، أما في هذه الصورة فلا يوجد قتل وإنما يوجد إنقاذ من الموت، فالمكلف يكون مخيّراً في الانقاذ ولم يكن مسرِّعاً لقتل واحدٍ منهما.

وأما الصورة الثالثة: - فيجوز للطبيبة أن تزرق نفسها الابرة، لأنَّ هذا تحفظ على نفسها وليس قتلاً للطفل، نعم إذا كانت الابرة تؤدي إلى قتل الطفل فهذا لا يجوز، ولكن إذا كان مفعول الابرة هو التحفّظ على حياة الأم فقط أما الطفل فبما أنه سوف يبقى في بطن الأم لفترةٍ طويلة فسوف يموت وليس بسبب هذه الابرة ففي مثل هذه الحالة يجوز لها زرق الابرة لإنقاذ حياتها، وأما الطفل فهي لم تقتله وإنما هو مات بالقضاء الإلهي وليس بسببها، وحينئذٍ لا بأس بأن تزرق الابرة نفسها للحفاظ على حياتها مادامت لا تصير بسبب تزريق الابرة نفسها سبباً لقتل الطفل، أما إذا صارت سبباً لقتله فلا يجوز ذلك وإنما ينتظر حتى يقضي الله عزَّ وجل.


[1] العروة الوثقى - جماعة المدرسین، الطباطبائي اليزدي، السيد محمد كاظم، ج2، ص117.