الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

42/11/03

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - التنبيه الثامن ( تعارض الضررين ) - تنبيهات قاعدة لا ضرر – شرائط جريان الأصول العملية.

وفي التعليق على ما ذكره السيد الخوئي(قده) في الدليل الثالث نقول:- إنَّ ما أفاده وجيه ولكن في غير مقامنا، فإنه ينبغي التفرقة بين مقامين، فتارةً يفترض أنَّ الحكم ترخيصياً ويرتبط بالشخص نفسه من دون أن يرتبط بشخصٍ آخر، كما لو فرض وجود إناءٍ من الماء، فشرب الماء جائز للمكلف فعلاً وتركاً، فإذا كان يضره الماء فلا يمكن أن يطبق لا ضرر هنا لأنَّ الضرر لم يأتِ من الشارع وإنما جاء من اختيار المكلف لشرب الماء، فلا يمكن تطبيق لا ضرر هنا في الأحكام الاباحتية التي هي في محيط الشخص نفسه من دون أن ترتبط بغيره، أما إذا كان الحكم الترخيصي يرتبط بشخصٍ آخر من زاوية أخرى كما هو الحال في محل كلامنا فإنَّ الرخصة في حفر البالوعة توجب تضرر الجار، فمثل هذا الحكم الترخيصي يمكن أن تشمله لا ضرر، فإنَّ الضرر جاء من الشرع، إذ الشارع لو رخّص فهذه الرخصة لو أعملها المكلف فسوف يسري تأثيرها على الجار وبالتالي سوف يتضرر الجار من حكم الشارع بالرخصة لمالك الدار بحفر البالوعة، ففي مثل هذه الحالة يمكن شمول قاعدة لا ضرر للحكم بجواز حفر البالوعة رغم أنه حكم ترخيصي. هذا هو التعليق بالنسبة إلى ما ذكره السيد الخوئي في كلامه الأول.

وأما كلامه الثاني[1] فحاصله:- إنَّ حديث لا ضرر وارد مورد الامتنان على الأمة الاسلامية، فمتى ما كان تطبيقه مخالفاً للامتنان فلا يمكن تطبيقه، وإنما يمكن تطبيقه فقط في حالة الموافقة للمنَّة، وفي المقام نقول إذا أريد تطبيق لا ضرر على مالك الدار - حيث إنه يتضرر إذا لم يحفر البالوعة - كان منَّةً عليه ولكن يلزم خلاف المنَّة على الجار لأنه سوف يتضرر، وإذا أريد تطبيقه على الجار فسوف يكون موافقاً للامتنان عليه ولكن سوف يكون خلاف المنَّة بالنسبة إلى مالك الدار لأنه سوف يتضرر، فإذاً تطبيقه على صاحب الدار مخالف للامتنان على الجار، وتطبيقه على الجار مخالف للامتنان على صاحب الدار، فلا يمكن تطبيقه على أحدهما، فلا يبقى عندنا إلا أصل البراءة فنتمسك به في حق صاحب الدار.

وفي مقام التعليق نقول: - من قال إنَّ حديث لا ضرر مسوق للامتنان حتى يختص تطبيقه بموارد الامتنان؟!! بل مجرّد دعوى لا مثبت لها.

ولعلك تريد الدفاع عن السيد الخوئي(قده) وتقول: - وأيُّ منَّةٍ أحسن على الانسان من رفع الضرر عنه؟!! أوليس هذا مصداقاً للامتنان بالحمل الشائع، أي هو مصداقٌ حقيقي للامتنان؟

قلت: - هناك فرقٌ بين يكون الحديث قد سيق مساق الامتنان وبين أن يكون واقعه يتناغم ويتفاعل مع الامتنان، فإذا كان قد سيق مساق الامتنان فما ذكر سوف يأتي فلا نطبّقه إلا في مورد الامتنان، من قبيل ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) فإنَّ هذا الحديث قد سيق مساق الامتنان بقرينة قوله عليه السلام ( رفع ) فإنَّ الرفع هو تخفيف، وكذلك تعبير ( عن أمتي )، فإذاً هذا الحديث سيق مساق الامتنان فهنا يأتي الكلام بأنَّ حديث الرفع لا يمكن تطبيقه إلا في مورد المنَّة، وهذا بخلافه في حديث لا ضرر فإنه لا يوجد فيه تعبير ( رفع ) ولا تعبير ( أمتي ) ولا ما شاكل ذلك من التعابير، وإنما يوجد تعبير ( لا ضرر ولا ضرار ) فقط، فأين مساق الامتنان؟!! فإذاً هو لم يُسَق مساق الامتنان، وحينئذٍ لا يمكن أن يتم كلام السيد الخوئي(قده) لأنه مبتنٍ على أنَّ حديث لا ضرر مسوق مساق الامتنان.

إن قلت: - إنه من خلال هذه المناقشة التي ذكرناها - وهي أنَّ حديث لا ضرر لم يثبت أنه سوق مساق الامتنان - فماذا تريد وراء هذه المناقشة فهل لا ضرر قابل للجريان في حق مالك الدار وقابل للجريان في حق الجار فتحصل المعارضة والتساقط وبالتالي نرجع إلى أصل البراءة في جواز حفر البالوعة؟ فهل تلتزم بذلك؟

قلت: - كلا، بل هناك شيء آخر يمكن الاستناد إليه في هذا المجال غير أصل البراءة، وهو فقرة ( لا ضرار )، يعني نحن عرفنا إلى الآن أنَّ فقرة لا ضرر غير قابلة للجريان في حق صاحب الدار ولا في حق الجار، وبعد أن عرفنا أنها لا تجري في حق الطرفين يأتي الكلام بالنسبة إلى الفقرة الثانية من الحديث وهي ( لا ضرار )، فتكون فقرة ( لا ضرار ) جارية من دون معارضٍ وتكون شاملة لصاحب الدار، فلا يوجد ضرر من الشرع كما لا يجوز لك الاضرار بالآخرين، فتعارض فقرة لا ضرر فقرة لا ضرر في الطرفين ليس معناه الرجوع إلى البراءة وإنما نرجع إلى فقرة لا ضرار، ولا ضرار ليست متعارضة، لأنَّ الذي يَضرُّ هو شخصٌ واحد وهو مالك الدار وليس الاثنين، فحينئذٍ تجري فقرة لا ضرار في حق صاحب الدار من دون معارض، وبذلك تكون النتيجة هي عدم الجواز لو أردنا أن نسير بهذا المسار الذي سلكه السيد الخوئي(قده).

وقد يقال: - إذاً ما هي النتيجة التي انتهيت إليها، فهل يجوز لصاحب الدار حفر البالوعة أو لا، لأنك انتهيت الآن إلى أنه لا يجوز له الحفر لفقرة ( لا ضرار )، أما فيما سبق فقد قلت إنه يمكن أن نقول بجواز الحفر، وهذا تدافع، فما هي النتيجة التي انتهيت إليها؟

قلت:- إنَّ كلامنا هذا كلَّه على المباني، فنحن مشينا على ما مشى عليه السيد الخوئي(قده)، فعلى ما ذكره السيد الخوئي(قده) من أنَّ لا ضرر في جانب صاحب الدار معارضة بلا ضرر في جانب الجار فيتساقطان المرجع يكون هو البراءة، ونحن قلنا إنَّ المرجع ليس هو أصل البراءة وإنما هو فقرة ( لا ضرار ) فهذا كله يتم إذا أردنا أن نمشي على مبنى السيد الخوئي(قده)، ولكن نحن منذ التقريب الأول لصاحب الرياض حدّدنا الموقف، حيث كان التقريب الأول يقول إنَّ مقتضى السلطنة لصاحب الدار هو جواز الحفر ولكن يعارضه لا ضرر في حق الجار فنرجع إلى أصل البراءة، ونحن علّقنا وقلنا إنه في باب الدور توجد سلطنة خاصة، فإنه توجد سيرة جارية على أنَّ الانسان يستطيع يفعل كل ما يريد في داره ولكن بشرط أن لا يضرَّ غيره وإذا أصاب الضرر غيره فعليه ضمانه، وهذه سيرة عملية للعقلاء والمتشرعة، وهي ليست خاصة بهذا الزمان وإنما هي موجودة في كل زمان وعدم الردع يدل على الامضاء، فالنتيجة هي أنه يجوز الحفر ولكن بشرط ترميم ما يلحق الجار من أضرار، أما التقريبات الأخرى التي ذكرناها فيما بعد فهي قضايا علمية صناعية وأردنا من خلال ذكرها ومناقشتها بيان أنه إذا أردنا أن نسير على هذا السير فنتيجته تكون كذا وإذا أردنا أن نسير على ذاك السير فنتيجته كذا، أما موقفنا فقد بيّناه من خلال ما أشرنا في التقريب الأول لصاحب الرياض.


[1] مصباح الأصول، الخوئي، ج2، ص657.