الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

42/10/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - التنبيه السابع ( لماذا يقدَّم حديث لا ضرر على أدلة الأحكام الأولية ) - تنبيهات قاعدة لا ضرر – شرائط جريان الأصول العملية.

بيان فكرة الحكومة: - والكلام يقع في جهتين: -

الجهة الأولى: - معنى الحكومة ووجه تقدم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم، وهذا البحث بمثابة الكبرى.

ولعل قائل يقول: - إنه يمكن جعل الجهة الأولى جهتين فلماذا دمجت بينهما في جهة واحدة.

قلنا: - إنما دمجنا بين هاتين لشدّة ارتباط البحث بينهما يستدعي أن نبيّن الاثنين معاً في مقامٍ واحد.

الجهة الثانية: - كيفية تطيق فكرة حكومة لا ضرر على الأدلة الأولية، وهذا البحث بمثابة الصغرى.

أما الجهة الأولى: - ففي ذلك آراء: -

الرأي الأول: - ما ذكره الشيخ الأعظم(قده) حيث قال إنَّ الحكومة عبارة عن النظر، فإذا كان أحد الدليلين ناظراً إلى الدليل الآخر فهذا ما يصطلح عليه بالحكومة، ولكنه لم يبيّن وجه التقدّم.

إذاً الحكومة تعني النظر، فإذا كان أحد الدليلين ناظراً إلى الدليل الثاني فالناظر هو الحاكم والمنظور إليه هو المحكوم، وأما إذا لم يكن أحد الدليلين ناظراً إلى الدليل الثاني ومتعرضاً له وإنما كان الدليل الأول بيّن حكماً والدليل الثاني بين حكماً آخر من دون نظرٍ مثل ( أكرم كل فقير ) و ( لا تكرم الفقير الذي يواظب على أحكام دينه ) فهنا النظر ليس موجوداً لأنَّ كل دليل يمكن أن يأتي مستقلاً عن الآخر، لأنَّ كل واحد منهما لا يتوقف على الآخر ولا يحتاج أحدهما إلى الآخر وليس أحدهما ناظراً إلى الآخر، ولكن يأتي العقل ويقول مادام قد قيل أولاً ( أكرم كل فقير ) ثم قيل ( لا تكرم الفقير غير المواظب ) فهنا سوف يحصل تنافٍ بين الدليلين لأنَّ الأّول قال ( أكرم كل فقير ) ولكن الدليل الثاني يقول ( لا تكرم الفقير غير المواظب ) والعقل يقول قدم الثاني على الأول، وهذا ما يعبّر عنه بالتخصيص.

ومن الواضح أنه إذا كان أحدهما ناظراً إلى الآخر فهذا ما نعبّر عنه بالحكومة، ونحن نقدّم أمراً مساعداً على معرفة كون الدليل الثاني ناظراً إلى الدليل الأول، وهو أنَّ الدليل الثاني يستبطن الدليل الأوّل ومن دون ذلك لا يمكن، فهنا يصير تعرّضاً وحكومةً ونظراً، كما في أحكام الشكوك، فمن شك بين الواحدة والاثنتين فصلاته باطلة، ومن شك بين الثلاث والأربع فحكمه كذا ... وهكذا ثم يأتي دليل يقول ( لا شك في النافلة )، فهنا لابد من فرض وجود حكم للشك في البداية حتى يأتي دليل ثانٍ ويقول ( لا شك في النافلة ) أي أنَّ شكك كعدم الشك فأنت بالخيار في النافلة بين البناء على الأقل أو البناء على الأكثر، فإذاً الدليل الأوّل يستبطن وجود دليلٍ آخر، فهو يثبت حكماً للشكوك حتى يأتي الدليل الثاني ويقول ( لا شك في النافلة ) أو يقول ( لا شك لكثير الشك ) وما شاكل ذلك.

الرأي الثاني: - ما ذهب إليه العلمان الشيخ النائيني والسيد الخوئي، حيث قالا إنَّ الحكومة تعني النظر، بيد أنهما أرادا بيان وجه تقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم، وقد ذكرا في هذا المجال ما مضمونه إنَّ الدليل المحكوم بيّن حكماً على تقديرٍ، كما لو بيّن أنَّ ( كل شخصٍ إذا كان عالماً فيجب احترامه )، فهذا حكمٌ على تقدير كون الشخص عالماً، ويأتي دليل ثانٍ يثبت ذلك التقدير أو ينفيه كما لو قال ( إنَّ المتقي عالم ) يعني صار المتقي بحكم العالم، أو يأتي دليل آخر يقول ( الفاسق ليس بعالم ) فهنا يقدّم الدليل الثاني الحاكم على الدليل الأول المحكوم ونكتة التقديم هي أنَّ الدليل الأول يقول إنَّ حكمي ثابت على تقدير أنه عالم أما أنه عالم بالفعل أو ليس بعالم فالحكم الأول ليس بصدده، ولكن يأتي الدليل الثاني ويثبت ذلك التقدير فيقول المتقي عالم أو الفاسق ليس بعالم، فإذاً الدليل الثاني يقول شيئاً لا يقف أمامه الدليل الأول، لأنَّ الدليل الأول يقول أنا أقول أكرم العالم يعني إذا كان الشخص عالماً فأكرمه أما من هو العالم فهو ليس بصدده، فهو لا يثبت العالمية لشخصٍ ولا ينفيها عنه وإنما يثبت الحكم لعنوان العالم، أما الدليل الثاني فهو يأتي ويثبت العالمية فهو يوسّعها أو يضيّقها، فالدليل الثاني يقول شيئاً لا ينفيه الدليل الأول، والدليل الأول يقول شيئاً لا ينافيه الدليل الثاني أيضاً، فيتقدّم الدليل الثاني على الدليل الأول، قال الشيخ النائيني(قده):- ( لأنَّ دليل المحكوم إنما يثبت الحكم على فرض وجود موضوعه ... ودليل الحاكم ينفي وجود الموضوع أو يثبته )[1] ، وقال السيد الخوئي(قده):- ( إنَّ كل دليلين يكون بينهما تنافٍ إن لم يكن أحدهما ناظراً إلى الآخر ... فهذا هو التعارض ... وأما إذا كان أحدهما ناظراً إلى الآخر فهو حاكم عليه ومبيّنٌ للمراد منه ). [2]

إذاً اتفق العلمان مع الشيخ الأنصاري على أنَّ الحكومة تعني نظر أحد الدليلين إلى الآخر، ولكن الشيخ الأعظم لم يوضح نكتة تقدّم الحاكم على المحكوم، أما العلمان فقد بيّنا نكتة تقدّم الدليل الحاكم ولكنها ليست نفس النظر فإنَّ نفس النظر هو الحكومة لا أنه هو النكتة الموجبة للتقديم، وإنما النكتة الموجبة للتقديم هي أنَّ الدليل الحاكم يقول شيئاً لا ينفيه الدليل الأول، لأنَّ الدليل الأول يقول ( أكرم كل عالم مثلاً ) ولكنه لا يقول من هو العالم، فيأتي الدليل الثاني ويقول شيئاً لا ينفيه الدليل الأول، وحينئذٍ يتقدّم الدليل الثاني على الدليل الأول لأنَّه يقول شيئاً لا ينفيه الدليل الأول.


[1] فوائد الأصول، النائيني، ج4، ص715، وقريب منها موجود في أجود التقريرات.
[2] مصباح الأصول( طبع موسسة إحياء آثار السيد الخوئي)، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج1، ص628.