الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

42/10/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - التنبيه السابع - تنبيهات قاعدة لا ضرر – شرائط جريان الأصول العملية.

الوجه الثالث: - أن يقال إنه في مورد الاجتماع يقدّم لا ضرر من باب أنه قطعي السند بينما دليل الحكم الأولي ظن السند وكلما تعارض دليلان أحدهما قطعي السند والآخر ظني السند قدّم قطعي السند بلا إشكال، أما كون حديث لا ضرر قطعي السند فذلك باعتبار أنه توجد فيه روايات متعددة وهي تستوجب التواتر وحصول القطع، بينما أدلة الأحكام الأولية فهي ظنية السند، فيُتقدَّم حديث لا ضرر من باب كونه قطعياً.

وهذا الكلام كما ترى يحتاج إلى ثلاث مقدمات إن تمت يتم هذا الوجه.

وقبل أن نذكر هذه المقدمات الثلاث نلتف النظر إلى أنه لماذا يقدم الدليل القطعي على الظني؟

قد يقال: - إنَّ الدليل القطعي جزماً هو المقدم، ولكن هذا الكلام لا يصلح للاستدلال العلمي، ولكن يوجد شيء أحسن من هذا وهو أن نقول: - إنه توجد عندنا روايات تقول ما خالف كتاب الله فهو على الجدار أو هو زخف، وكتاب الله إنما يؤخذ به من باب كونه دليلاً قطعياً لا لخصوصية فيه سوى أنه دليل قطعي، فنتعدى إلى كل دليل قطعي إذا عارض دليلاً ظنياً.

وبعد اتضاح هذا نقول إنَّ هذا الوجه يتوقف على ثلاث مقدمات: -

المقدمة الأولى: - إنَّ دليل الحكم الأولي ظنّي وليس قطعياً.

ولكن نقول: - إنه هذا الأمر ليس كذلك دائماً وإنما قد يكون دليل الحكم الأولي قطعياً كدليل وجوب الوضوء وهو قوله تعالى ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ... ﴾، فالآية الكريمة هي نصٌّ في حكم الوضوء، فإذاً ليس دائماً دليل الحكم الأوّلي هو ظني، وعله فما ذكره يتم فيما إذا كان دليل الحكم الأوّلي ظنياً ولا يتم فيما إذا كان قطعياً، لأنه سوف يصير قطعياً في مقابل قطعي.

المقدمة الثانية: - أن يكون سند القاعدة قطعياً.

ولكن نقول: - إنَّ هذا قد يتأمل فيه، فإنَّ أقصى ما هناك وجود ثلاث روايات أو أربع، فالقطعية والتواتر هي أمرٌ ممكن ولكنها ليست أمراً واضحاً وقد يختلف باختلاف المشارب، فالذي تمَّ عندنا سنداً هو روايتان أما البقية فليست بتامة السند ولابد من ضم روايات أخرى من كتب العامة وما شاكل ذلك، فإذاً يمكن أن يشكك شخص في قطعية سند قاعدة لا ضرر، وهو أمر ليس بواضح.

المقدمة الثالثة: - أن نفترض عدم إمكان الجمع الدلالي أما إذا أمكن الجمع الدلالي فلا تصل النوبة إلى المعارضة المستقرة بل تكون المعارضة غير مستقرة، وفي مثل هذه الحالة لا يمكن أن يقال يؤخذ بلا ضرر ويسقط إطلاق الليل الأوّلي، بل يمكن أن يقال بإمكان الجمع الدلالي بينهما وذلك من خلال فكرة الحكومة التي سنذكرها فيما بعد، فإن فكرة الحكومة يزول من خلالها التعارض بين قاعدة لا ضرر وبين أدلة الأحكام الأوّلية.

إذاً اتضح أنَّ هذا الوجه يحتاج إلى مقدمات ثلاثة وجميعها قابلة للتأمل.

الوجه الرابع:- ما نقله الشيخ النائيني(قده)[1] حيث ذكر أنه يمكن أن يقال لو قدمنا أدلة الأحكام الأولية على قاعدة لا ضرر يلزم سقوط لا ضرر رأساً ولغويتها، بينما إذا قدمنا لا ضرر على أدلة الأحكام الأولية لا يلزم سقوط أدلة الأحكام الأولية رأساً ولا لغويتها بل يلزم الأخذ بها في غير مورد الضرر، وعليه قد أخذنا بكلا الدليلين.

ولو قال قائل: - فلنقدّم أدلة الأحكام الألية على قاعدة لا ضرر من دون أن يلزم سقوط لا ضرر رأساً، وذلك ببيان أن نقول: - نحن نقدم أدلة الأحكام الأوّلية لا بأجمعها بل نقدم بعض دون البعض الآخر، يعني بتعبير آخر لو كان يوجد عندنا ألف حكم أوّلي فنقدّم نصفها على قاعدة لا ضرر وأما النصف الآخر فلا نقدمه على قاعدة لا ضرر، فإذاً لا يلزم من ذلك سقوط قاعدة لا ضرر رأساً ولا سقوط الأدلة الأولية رأساً بل حصل الجمع بينهما.

قلنا: - إنه يلزم الترجيح من دون مرجح، إذ لا يوجد مرجح هنا.

إذاً بضم فكرة بطلان الترجيح بلا مرجح يتم هذا المطلب، فنبطل هذا الاحتمال من خلال ضم فكرة بطلان الترجيح بلا مرجح، فيدور الأمر إذاً بين احتمالين ولا يوجد احتمال ثالث، والاحتمالان هما إما أن نقدم لا ضرر فلا يلزم إلغاء أدلة الأحكام الأولية، وبين أن نقدّم أدلة الأحكام الأولية فيلزم إلغاء قاعدة لا ضرر، وحينئذٍ عند الدوران بين ما يلزم من تقديمه إلغاء أحد الدليلين رأساً بينما على التقدير الآخر عدم الإلغاء رأساً يكون الأرجح هو تقديم ما لا يلزم من تقديمه إلغاء الطرف الآخر رأساً.

وقد ناقش السيد الخوئي(قده)[2] هذا الوجه وقال:- إنه يمكن أن نختار الاحتمال الثالث - وهو أن نقدّم بعض أدلة الأحكام الأولية على قاعدة لا ضرر دون بعضها الآخر - وذلك بأن يقال إنَّ أدلة الأحكام الأولية على قسمين، فبعضها إطلاقات تدل على الحكم الشرعي الأولي بالإطلاق وبعضها تدل عليه بأداة العموم، ودلالة ( لا ضرر ) هي بالإطلاق لأنَّ لا ضرر بإطلاقه ينفي أي حكم من الأحكام، فإذا كان دليل الحكم الأولي بالإطلاق - أي بمقدمات الحكمة - فسوف يتم ما أفاده الشيخ النائيني(قده)، يعني أنه لا مرجّح هنا فيتساقطان لأنَّ كل واحدٍ منهما دلالته بالإطلاق، فلا ضرر دلالته على الشمول لمورد الحكم الأوّلي هي بالإطلاق، وكذلك دلالة الحكم الأوّلي قد افترضنا أنها شاملة بالإطلاق أيضاً، فيتم ما ذكره من أنَّ تقديم لا ضرر على دليل الحكم الأوّلي أو بالعكس يكون ترجيحاً من دون مرجح، ولكن نقول إنَّ القسم الثاني من أدلة الأحكام الأوّلية دلالتها هي بالعموم وليس بالإطلاق، وإذا كانت دلالتها ثابتة بالعموم فسوف تتقدّم على إطلاق لا ضرر، لأنه كلما اجتمع دليلان متعارضان دلالة أحدهما بالعموم - بالوضع - ودلالة الآخر بالإطلاق - أي بمقدّمات الحكمة - قدّم ما كانت دلالته بالعموم لأنه أقوى، وهذا الأمر متفق عليه بين الأصوليين.

فإذاً لا يلزم محذور الترجيح من دون مرجح، وعليه فسوف ويبطل هذا الوجه.


[1] منية الطالب، النجفي الخوانساري، الشيخ موسى؛ تقرير بحث الميرزا النائيني، ج3، ص406.
[2] دراسات في أصول الفقه، الخوئي، ج3، ص513.