الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

42/10/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - التنبيه السابع ( لماذا يقدم حديث لا ضرر على أدلة الأحكام الأولية ) - تنبيهات قاعدة لا ضرر – شرائط جريان الأصول العملية.

التنبيه السابع: - لماذا يقدم حديث لا ضرر على أدلة الأحكام الأولية.

وفي توضح الحال نقول:- نحن نعرف أنَّ النسبة بين حديث لا ضرر وبين أدلة الأحكام الأوّلية هي العموم والخصوص من وجه، مثل دليل وجب الوضوء فهو بإطلاقه يشمل الوضوء الغير الضرري والوضوء الضرري وحديث لا ضرر بإطلاقه يشمل غير الوضوء والوضوء ومادة المعارضة بينهما هي الوضوء الضرري، فإذاً مادّة المعارضة بينهما ه الوضوء الضرري، فإذاً النسبة هي العموم والخصوص من وجه، وهكذا إذا أضر الصوم المكلف فالكلام هو الكلام فإن دليل وجوب الصوم بإطلاقه يشمل حالة الضرر وعدم الضرر ودليل لا ضرر بإطلاقه يشمل الصوم وغير الصوم ومادة المعارضة والاجتماع هو الصوم الضرري فدليل وجوب الصوم يجب عليه الصوم ودليل لا ضرر لا يوجب عليه الصوم، فإذاً النسبة هي العموم والخصوص من وجه ولكن لماذا يقدم حديث لا ضرر رغم كون النسبة هي العموم والخصوص من وجه؟ وقد اتفقت الكلمة على تقديم حديث لا ضرر، بيد أنه وقع الكلام في نكتة التقديم، وقيل في نكتة التقديم أنها الحكومة، وقيل غير ذلك.

ونحن الآن بصدد استعراض بعض الوجوه التي قيلت في تقديم حديث لا ضرر على الأدلة الأوّلية: -

الوجه الأول: - إنَّ حديث لا ضرر امتناني فيقدّم على الأدلة الألية لنكتة الامتنان، كما قيل ذلك في الموارد الأخرى، فمثلاً في حديث الرفع - ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) - فهو امتناني فيقدم على الأدلة الأولية فكل حكم أولي لا يعلم به فهو مرفوع بالرفع الظاهري - لا بالرفع الواقعي لأنَّ الأحكام واقعاً هي مشتركة بين العالم والجاهل -.

وهذا الوجه ذكر في بعض كلمات الشيخ الأعظم(قده) ويظهر منه أنه يقبله وإن لم يسلّط الأضواء عليه بشكل واضح، قال:- ( مع أنَّ وقوعها في مقام الامتنان يكفي في تقديمها على العمومات ) [1]

ويرد عليه: -

أولاً: - إنَّ حيث لا ضرر إنما يصح تقديمه فيما لو كان ناظراً إلى الأحكام الأولية، فمجرد نكتة الامتنان من دون أخذ نكتة النظر في لسان الدليل لا يكفي للتقديم، نعم إذا أخذ النظر في لسان الدليل كما في ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون )، فإنَّ هذا امتنان أيضاً وقد أخذ فيه ( رفع ما لا يعلمون ) فهو ناظر إلى الأدلة الأوّلية ويقول إنَّ تلك قد رفعت امتناناً، فيكون هذا موجباً للتقديم، أما في حديث لا ضرر لا يوجد نظر إلى الأدلة الأولية، فإنه لا يوجد فيه تعبير ( رفع عن أمتي ) أو ما شاكل ذلك من التعابير التي تتلاءم مع النظر إلى الأدلة الأولية في عالم الإثبات كي يتقدّم حديث لا ضرر بنكتة النظر كما استوجب التقديم في حديث الرفع، فإذاً الامتنان وحده لا يصلح نكتةً للتقديم.

ثانياً: - لو تنزّلنا وقلنا إنَّ نكتة الامتنان لحديث لا ضرر وحدها كافية من دون الحاجة إلى النظر ولكن نقول يلزم أن تكون نكتة الامتنان هي تمام العلة وتمام الملاك لا جزء العلّة، فإن كانت هي تمام العلة فحينئذٍ نفس الامتنان سوف يوجب التقديم، أما إذا فرض أننا لا نعلم بكون الامتنان في لا ضرر هو تمام العلّة وإنما لعله جزء العلّة فحينئذٍ لا يستوجب التقدّم على الأدلة الأخرى، إنما يستوجب التقدّم على الأدلة الأخرى فيما إذا فرض أنَّ الامتنان هو تمام العلّة لا جزئها، وهنا نحتمل أنه جزء العلة لأنَّ الامتنان لم يؤخذ في لسان الدليل حتى يثبت من خلال لسان الدليل أنه تمام العلَّة، بخلافه في مثل ( رفع عن امتي ما لا يعلمون ) حيث أخذ الامتنان كعلَّةٍ تامة في لسان الدليل فقيل ( رفع ) فيقدَّم على الأدلة الأوّلية، أما في موردنا فصحيح أنا سلّمنا أنَّ المولى تعالى شرّع نفي الأحكام الضررية في حالة الضرر للامتنان ولكن من قال إنَّ الامتنان هو تمام العلّة، بل لعله جزء العلة، وإذا كان جزء العلَّة تبقى نسبة المعارضة بنحو العموم والخصوص من وجه وحدها فعّالة في الموضوع من دون موجبٍ لتقديم لا ضرر، بخلاف ما إذا كان الامتنان هو تمام العلَّة فهنا يمكن أن يقال إنَّ ذلك يستوجب التقديم، أما إذا لم يؤخذ الامتنان في لسان الدليل وإنما كان أصل التشريع واقعاً يتناسب أن يكون مع الامتنان فلعلَّ الامتنان في مقام التشريع كان بنحو جزء العلَّة لا بنحو تمامها.

والفرق بين المناقشتين ينبغي أن يكون واضحاً:- ففي المناقشة الأولى قلنا لابد وأن تكون نكتة الامتنان مأخوذة في لسان الدليل حتى يتشكل نظر لهذا الدليل ويكون ناظراً إلى الدليل الآخر فيتقدم بنكتة النظر كما في ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون )، وإذا لم هناك نظر في لسان الدليل فالامتنان الواقعي يكفي إذا كان تمام العلة، أما إذا كان جزء العلة فلا يكفي للتقديم وإنما تبقى المعارضة بنحو العموم من وجه وحيث نحتمل واقعا أن يكون الامتنان جزء العلة إذ المفروض أنه لم يؤخذ الامتان في لسان الدليل فلم يقل ( رفع عن أمتي الضرر والضرار ) حتى يثبت أنه تمام العلة وإنما قيل ( لا ضرر ولا ضرار ) فلا يثبت أنه تمام العلة.

الوجه الثاني:- ما ذكره الشيخ النائيني(قده) ، [2] وحاصله:- إنَّ النسبة بين لا ضرر وبين الأدلة الأوّلية للأحكام هي العموم والخصوص المطلق، يعني أنَّ لا ضرر أخصُّ مطلقاً والأدلة الأوّلية هي أعم مطلقاً، لأنَّ مجموع أدلة الأحكام الأوّلية من الله عزَّ جل إذا نظرنا إليها من حيث المجموع بما هو مجموع فهي تكون بمثابة دليلٍ واحد، فليست هناك أحكاماً متعددة وأدلة متعددة حتى تصير النسبة بين لا ضرر وبين تلك الأدلة هي العموم والخصوص من وجه، وإنما إذا قلنا عن مجموع الأحكام هو حكمٌ واحد فسوف يصير دليل واحد في مقابل دليل واحد، فتصير النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق- وهذا له وجاهة - وحينئذٍ هذا الدليل الواحد - الذي هو أدلة الأحكام - ولكنه وسيع يشمل الصوم والصلاة والحج والزكاة وغير ذلك أما لا ضرر فهو أضيق فيتقدّم عليه لأنه خاص وذاك عام، قال:- ( إلا أنَّ ورود نفيه على أحكام الإسلام .... يقتضي ملاحظته مع مجموع الأحكام فيقدّم عليها بالأخصّية ).

ولكن نقول: - إنَّ هذه مجرد دعوى من دون إثبات، فهو لم يأت بوجهٍ لإثبات ذلك، فحتى لو قلنا إنَّ مجموع الأحكام هو من الله عزَّ وجل ولكنها لا تصير حكماً واحداً.

وذكر السيد الشهيد(قده) عبارة كأنه أراد بها مساعدة الشيخ النائيني(قده) حيث قال:- هناك قرينة على أنَّ الأحكام تدريجية فهناك صادر واحد من الله عزَّ وجل هو تدريجي فبهذا الاعتبار يكون علمنا بنزولها التدريجي يجعلها واحدة فتصير النسبة هي العموم والخصوص المطلق، قال:- ( إنَّ الشارع بعدما نصب قرينة على أنه يتدرج في بيان الأحكام فلابد لأجل اقتناص المفاد النهائي من ملاحظة المجموع والتجميع بينها ). [3]

ولكن نقول: - إنَّ هذا كلام خطابي لا يصح الاعتماد عليه، نعم يمكن أن يذكره بعنوان التوجيه لما ذهب الشيخ النائيني(قده) لا بعنوان الارتضاء والتبنّي له، ولعلّه يقصد هذا.


[1] فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص462.
[2] منية الطالب، النجفي الخوانساري، الشيخ موسى؛ تقرير بحث الميرزا النائيني، ج3، ص406.
[3] بحوث في علم الأصول، الهاشمي الشاهرودي، السيد محمود، ج5، ص506.