الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

42/06/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - التنبيه الأول - تنبيهات قاعدة لا ضرر – شرائط جريان الأصول العملية - مبحث الأصول العملية.

تنبيهات: -

التنبيه الأول: - لزوم محذور كثرة التخصيص

ذكر الشيخ الأعظم (قده) في الرسائل ذكر أنَّ قاعدة لا ضرر بناءً على تفسيره لها والذي تبنيناه سوف يلزم كثرة التخصيص، ثم صعّد اللهجة وقال بل الخارج منها قد يكون أكثر من الباقي تحتها، ثم قال إنَّ هذا يكشف عن أنَّ لا ضرر يقصد منها معنى أضيق لا يلزم منه محذور كثرة التخصيص، وحيث إنَّ ذلك المعنى الأخص مجهول عندنا فلا يمكن التمسك بقاعدة لا ضرر لأنه لا يعلم أنَّ هذا من الباقي أو من الخارج، مضافاً إلى أنَّ الشيخ الأنصاري يجعل عموم لا ضرر موهوناً لا يمكن الاستناد إليه، فإنه بعد أن ذكر أنه لا قصور في قاعدة لا ضرر سنداً دلالة قال ما نصه:- ( والذي يوهنها كثرة التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي )[1] ، أما كيف يلزم كثرة التخصيص؟ ذلك من ناحية الخمس والزكاة والكفارات والحج والصوم والجهاد والاسترقاق وسلب مالية الخمر وما شاكل ذلك لأنَّ هذه الأمور يلزم منها الضرر، فإنَّ الخمس يلزم منه الضرر المالي، وكذلك الزكاة فإنه ضريبة العشر أو نصف العشر فهذا ضرر، وكذلك الكفارات فإنَّ فيه ضرر لأنه سوف يشتري الطعام ويدفعه إلى الفقراء وهذا ضرر مالي، وكذلك الجهاد فواضح أنه ضرر لأنه سوف يقتل أو تقطع يده أو رجله مثلاً أو يعاق وما شاكل ذلك وهذا ضرر، وكذلك الحج فإنَّ فيه ضرر مالي كبير وتعب جسدي، وكذلك سلب مالية الخمر هو ضرر وكذلك سلب مالية الخنزير وكذلك آلات الموسيقى والقمار وهلم جرا، وكذلك القصاص ضرر، فعلى هذا المنوال سوف يلزم خروج الكثير من عموم لا ضرر فكيف الجواب عن ذلك؟

وكيف يصاغ هذا الاشكال صياغة فنية؟

إنه يمكن أن يصاغ بصياغتين: -

الصياغة الأولى: - وهي ما فهمناه من خلال كلامنا وهي مرتكز في الأذهان فيقال إن كثرة التخصيص هي بنفسها موهن للعموم، فنفس كثرة التخصيص هي عيب من العيوب في العموم ولذلك العام إذا خرج منه افراد كثيرة فهذا موهن له بحيث يتوقف حينئذٍ بالأخذ بعمومه، فمرة يصاغ السؤال بهذه الصياغة المعهودة الواضحة.

الصياغة الثانية: - إنَّ لا ضرر بلسانه وبمضمونه يأبى عن أصل التخصيص فضلاً عن التخصيص الكثير فكيف بالتخصيص الكثير وذلك لأحد بيانات ثلاثة: -

البيان الأول: - أن نقول إنَّ لا ضرر هو حكم امتناني والحكم الامتناني يرفض التخصيص لأنَّ المعنى يصير هكذا ( أي حكم ينشأ منه الضرر فهو مرفوع امتناناً إلا الخمس فإنَّ المنَّة لا تشمله وكذلك الزكاة والحج والصوم وغير ذلك ) لكن نقول إن كان منَّة فتخصيص المنّة بقسم دون قسمٍ لا معنى له، فنفس لسان المنَّة هو بنفسه يأبى عن التخصيص القليل فضلاً عن الكثير لأن المنَّة غير قابلة للتخصيص، فمادام المورد هو مورد المنَّة في مورد الضرر فإذا أريد الامتنان برفع الضرر فلابد أن يكون الامتنان في كل موارد الضرر لا في بعضها دون بعض، هكذا يصاغ.

البيان الثاني: - إنَّ الكثير من هذه الموارد هي من أصول الإسلام الخمس والزكاة والحج والصوم والجهاد فكيف تستثني أصول الإسلام من لا ضرر، فنقول إن الله عزَّ وجل لا يريد الاضرار بكم ونخرّج أصول الإسلام من هذه القاعدة فإن هذا قبيح بل أصول الإسلام هي الأليق برفع الضرر فيها فاستثناء أصول الإسلام لا معنى له، فإذاً لا معنى لأن يقال لا ضرر في أحكامه إلا في الحج فإنه يوجد ضرر وإلا في الخمس وإلا في الزكاة وكيف يكون الضرر موجوداً ولكنه ليس مرفوعاً؟!! إنَّ هذا قبيح ومستهجن أن تكون أصول الإسلام هي ضررية ولا يُرفَع الضرر فيها.

البيان الثالث: - أن يقال إنه يلزم من استثنائها تشويه سمعة الإسلام وأنَّ أحكام الإسلام وبالتالي لا ضرر لا يشملها وبالتالي الضرر فيها موجود وثابتاً والحكم يكون ثابتاً وهذا تشويه لسمعة الإسلام وأنَّ أصول الإسلام وأسسه هي ضررية والضرر ليس مرفوعاً فيها، فقد يقال إنكم تعترفون بأنه يوجد في أصولكم الإسلامية ضرر وهو ليس مرفوع، وهذا تشويه لسمعة الإسلام.

فإذاً توجد ثلاثة بيانات يمكن أن يقال من خلالها بإباء لا ضرر عن التخصيص إما أنَّ كثرة التخصيص هي بنفسها توجب الاستهجانـ وإما أن يقال هو امتناني، أو يقال إنَّ هذه الأمور هي من أصول الإسلام فمن الأليق أن يشملها الامتنان وألا تكون ضررية أو يقال إنه يلزم تشويه سمعة الإسلام وأنَّ الكثير من أحكامه ضررية والحكم باقٍ فيها، فالجهاد ضرري الحكم باقٍ فيه والخمس ضرري والحكم باقٍ فيه وهذا تشويه لسمعة الإسلام، فكيف الجواب عن هذا الاشكال؟

والجواب: - إنه تارةً يكون الجواب موردياً أي يكون مختصاً بهذا المورد، وتارةً يكون الجواب عاماً شاملاً للجميع وليس خاصاً بموردٍ دون آخر، والأليق أن يكون الجواب شاملاً لجميع الموارد بحيث نرفع الاشكال من الأساس بلحاظ جميع الموارد، وفي هذا المجال يمكن أن يقال نحن نعرف أنَّ أحكام الإسلام قد نشأت من مصالح عامة ومفاسد لا كما يقول من ينكر فكرة التحسين والتقبيح العقليين كالأشاعرة الذين جمّدوا العقول، فنوقل إنَّ أحكام الشرع تابعة للمصالح الاجتماعية العامة فإنَّ الطابع العام هو أنها عامة وقد تكون للفرد، من قبيل أنَّ من جنى بالقتل فجزاؤه القتل فإنَّ النفس بالنفس، فصحيحٌ أنَّ هذا الشخص القاتل سوف يُقتِل بسبب القتل الذي صدر منه ولكن هذا فيه تربية للآخرين، لأنه سوف لا يقدم أحد فيما بعد على جريمة القتل وبذلك يتحقق مصداق العدالة الاجتماعية وسوف ترسوا أسس العدالة الاجتماعية وتثبت، وإذا فرض أنَّ شخصاً ضربك فلك الحق أن تصربه كما ضربك ... وهكذا تتحقق العدالة الاجتماعية بهذا الأمر وهذه مصلحة عامة، فصحيح أنَّ الشخص القاتل سوف يتضرر لأننا سوف نقتله مقابل القتل الذي صدر منه ولكن بالتالي سوف تتحقق العدالة الاجتماعية وهذه مصلحة عامة ينظر إليها وهي مطلوبة، وهكذا من زنى بالمحارم فإنه لابد من الوقوف أمام هذه الظاهرة كي لا يقدم عليها أحد فلابد أن يقتل، وبذلك سوف يحصل ارتداع اجتماعي، كما أنَّ هذا الشخص قد أقدم على جريمة كبرى فيستحق القتل فهل لا يقابل بشيء على هذه الجريمة الكبرى؟!!، وكذلك بالنسبة إلى الخمس فإنه بأخذ مقدار الخمس سوف يرسو نظام العدالة الاجتماعية لأنَّ الفقراء من أين يأكلون ومصارف الدولة ومصارف المجتمع من أين تأتي إذا لم تكن الكفارات والزكاة والخمس، فإنه في الكفارات الشخص نفسه لا يرتكب الخطأ لأنه سوف يحذر من الكفارة، وأيضاً سوف يستفيد الفقراء من ذلك ... وهلم جرا، ولو قلت:- إنَّ الصوم فيه ضرر لأنك سوف تترك الأكل لعدّة ساعات؟ ولكن نقول: - إنَّ هذا فيه منفعة، لأنه ينفع للصحة وهذا ما أثبته الأطباء الآن، مضافاً إلى أنه سوف يربّي لك الإرادة والتوجه إلى الله عزَّ وجل، ومن توجه إلى الله عزَّ وجل عاش حالة الاستقامة.

وخلاصة الجواب: - إنه سوف تصير هناك مصالح عامة ومصالح خاصة أو مشتركة، ومع وجود هذه المصالح لا يكون في هذه الأمور ضرر بل كلّها نفع، فعلى هذا الأساس لا تلزم كثرة التخصيص بعد الالتفات إلى ما أشرنا إليه، وهذه قضية ينبغي أن تكون واضحة، هذا هو الجواب المناسب الأساسي والذي يرجع إلى وجود مصالح اجتماعية وفردية تعود على المجتمع والأفراد وبالتالي لا يتحقق عنونا الضرر بعد وجود هذه المصالح.

بيد أن هناك أجوبة أخرى في هذا الجال نشير على بعضها: -

منها: - ما أشار إليه الشيخ الأعظم(قده) حيث قال:- إنَّ هذه الأمور خرجت بعنوانٍ واحدٍ فلا يلزم من ذلك كثرة التخصيص بعدما كان الخروج بعنوانٍ واحد خصوصاً إذا علم المكلف بذلك، فمثلاً خرج القتل بعنوان القصاص فهنا سوف لا نلتفت إلى الموارد الجزئية للقصاص حتى تقول إنَّ هذه الموارد الجزئية هي مليون مورد مثلاً وإنما سوف يصير مورداً واحداً وهو عنوان القصاص، وكذلك عنوان الدية لا أننا ننظر إلى موارد الدية المتعددة ... وهكذا، قال ما نصّه:- ( إنَّ الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنما خرجت بعنوانٍ واحد جامعٍ لها وإن لم نعرفه على وجه التفصيل وقد تقرر أن تخصيص الأكثر لا استهجان فيه إذا كان بعنوان واحد جامع لأفرادٍ هي أكثر من الباقي كما إذا قيل أكرم الناس ودل دليل على اعتبار العدالة خصوصاً إذا كان المخصص مما يعلم به المخاطب حال الخطاب )[2] .


[1] فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص465.
[2] فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص465.