42/05/12
الموضوع: - قاعدة لا ضرر – شرائط جريان الأصول العملية - مبحث الأصول العملية.
البحث الثالث: - البحث عن مفاد جملة ( لا ضرر ولا ضرار ) فماذا يقصد منها؟
وقبل أن نجيب عن ذلك نقول:- إنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم له كلمات قصار كثيرة بعضها واضحة المعنى ولا تحتاج إلى بيان من قبيل ( حبَّ الدنيا رأس كل خطيئة ) أو ( حاسبوا أنفسكم قبل ان تحاسبوا ) والكثير من هذا القبيل، ولكن وقع كلام بعض كلماته وأنه ما هو المقصود منها، ومن أحد كلماته هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم:- ( لا ضرر ولا ضرار )، ونحن عرفنا المعنى الإفرادي لكلمة الضرر وعرفنا المعنى الإفرادي لكلمة الضرار ولكن ما هو المقصود من عبارة ( لا ضرر) فإنَّ مجرد معرفة معنى الضرر لا تكفي، فنحن قلنا إنَّ الضرر هو النقص الطارئ على الانسان في ماله أو بدنه أو عرضه أو غير ذلك، فما يطرأ عليه من نقصٍ فهو ضرر، كما أنَّ ( لا ضرار ) ذكرنا له عدّة احتمالات وأنه قد أُخذ فيه القصد، فإنَّ إدخال الضرر على الآخرين بقصد الضرر هو ضرار، فنحن فهمنا هذا كمفردة ولكن ما معنى جملة ( لا ضرر ولا ضرار )، فماذا يريد أن يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنَّ هذا وقع فيه خفاء وحصل فيه اختلاف بين الأعلام، وهو خلاف يؤثر على الاستنباط كما سوف يأتي، فإنه بناءً على تفسير بعضهم سوف يؤثر على الاستنباط كثيراً، بينما على تفسير بعضٍ آخر سوف لا يؤثر كثيراً على الاستنباط، وهذه قضية ينبغي الالتفات إليها، ونحن نبحث مرة عن عبارة ( لا ضرر )، وأخرى نبحث عن عبارة ( لا ضرار ).
أما عبارة ( لا ضرر ):- فماذا يقصد منها وكيف يؤثر تفسيرها على عملية الاستنباط؟
والجواب: - نذكر ثلاث آراء رئيسية في هذا المجال: -
الرأي الأول: - وهو للشيخ الأعظم(قده)، حيث فسَّر لا ضرر بمعنى أنه لا حكم ينشأ منه الضرر، يعني كل حكم ينشأ من الضرر فهو مرتفع، كما لو أردت الوضوء وكان الماء بارداً جداً وكان يضرني فهنا الوضوء سوف يؤدي إلى الضرر، أو أنَّ غسل الجنابة سوف يؤدي إلى الضرر، فهنا سوف يرتفع وجوب الوضوء أو الغسل، وهكذا في الصلاة من قيامٍ أو في الصيام وغير ذلك، فكل حكم يؤدي إلى الضرر فسوف يرتفع، فـ( لا ضرر ) بناءً على هذا التفسير تكون قاعدة يستنبط منها أحكاماً كثيرة.
الرأي الثاني: - إنَّ المقصود من ( لا ضرر ) هو النهي عن الضرر لا نفي الحكم الضرري، وهذا ما ذهب إليه شيخ الشريعة الأصفهاني(قده)، وهنا سوف تقل الفائدة من ( لا ضرر ) ولا نستنبط منه أحكاماً كثيرة، وإنما أقصى ما نستفيده منه هو أنَّ كل شيءٍ يضر بالإنسان يصير محرّماً أو أن كل شيء يضر بالآخرين يصير إيصال ذلك الضرر إليهم محرّماً أيضاً ولا يثبت أكثر من ذلك.
الرأي الثالث: - وهو للفاضل التوني(قده)، وهو أنَّ المقصود من ( لا ضرر ) يعني لا ضرر غير متدارك، وعليه فسوف يقل الاستنباط بصورة أشد منه على التفسير الثاني.
هذه ثلاثة آراء رئيسية ثلاثة، ولكن بعض الآراء منها فيه تشعبات وأقسام كالأول، فإنَّ نفي الحكم الضرري قد وقع فيه انقسامٌ أيضاً، فالشيخ الأنصاري(قده) فسّر ذلك بكون المقصود هو أنَّ كل حكمٍ هو سبب للضر وينشأ منه الضرر فهو مرفوع، فالحكم يصير سبباً للوضوء الضرري، فالضرر هو في الوضوء وسببه هو الحكم الشرعي بوجوب الوضوء، فينفى الضرر الذي هو المسبَّب والمقصود هو نفي السبب - أي الحكم -، فإذاً المقصود هو نفي السبب حقيقةً ولكن بلسان نفي المسبَّب، فالمقصود هو نفي الحكم بوجوب الوضوء الذي هو السبب للوقوع في الضرر ولكن لا بلسان الحكم ضرري وإنما بنقي الموضوع الذي ينشأ منه الضرر، فنُفي السبب بلسان نفي المسبَّب، والمسبَّب هو الوضوء الضرري ينشأ ويتسبب من وجوب الوضوء الذي هو السبب للضرر، فنفي الوضوء الضرري ولكن المقصود الأساسي هو في الحكم - وهو وجوب الوضوء -، بينما قال الشيخ الخراساني(قده) في الكفاية إنه نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، فجعل المورد من الموضوع والحكم وليس من السبب والمسبَّب، فالوضوء الضرري موضوع أما حكمه - وهو الوجوب - فقد ارتفع ولكن نفي الحكم بلسان نفي الموضوع وهذه من أحد أساليب البلاغة.
فإذاً كلا العلمين اشتركا في شيء واختلفا في شيء آخر، فهما اشتركا في كون المقصود من لا ضرر هو نفي الحكم الموجب للضرر، ولكن اختلفا في طريق الوصول إلى هذه النتيجة الواحدة، فالشيخ الأنصاري قال إنَّ المقصود من لا ضرر هو نفي السبب - وهو الحكم - ولكن بلسان نفي المسبَّب، أو قل نُفِيَ المسبَّب والمقصود هو نفي السبب، بينما الشيخ الآخوند فهو أيضاً يقول إنَّ المقصود هو نفي الحكم ولكن لا من خلال نفي السبب وإنما من خلال نفي الموضوع، فإنه من أساليب اللغة العربية أنه ينفى الحكم ولكن بلسان نفي الموضوع. وكلاهما أسلوبان فصيحان عربيان يشتركان في جامعٍ مشترك وهو أنَّ المقصود هو نفي الحكم في حالة الضرر ولكن من خلال طريقين مختلفين.
والخلاصة من كل ما ذكرناه: - إنه قد اختلف في تفسير لا ضرر، فهل المقصود هو نفي الحكم الضرري إما بطريقة الشيخ الأنصاري أو بطريقة الشيخ الآخوند، أو أنَّ المقصود هو النهي، أو أنَّ المقصود هو نفي الضرر غير المتدارك؟، هذه هي الآراء الرئيسية، كما يوجد تصويران في الرأي الأول.
وهناك احتمال رابع للشيخ الصدوق(قده) في الفقيه: - حيث يظهر منه أنَّ المقصود من ( لا ضرر ) هو أنَّ الإسلام لا يسبّب لك الضرر أيها الانسان، فإنَّ البعض قال إذا مات أحد الأقرباء الكفار للمسلم فإنَّ الذي يرثه هو القريب الكافر لا المسلم حتى لو كان المسلم ابنه أو أبيه أو أخيه، وهنا جاء الشيخ الصدوق وفسّر لا ضرر وقال إنَّ الإسلام لا يسبب ضرراً للمسلم بناءً على وجود عبارة ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام )، كما نقل ذلك في الفقيه تصير كلمة ( في ) هنا سببية، يعني لا ضرر بسبب الإسلام، فإنَّ ( في ) هنا قد تستعمل بمعنى باء السببية كما ينقل عن أبي هريرة ( دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها .......... )، فـ( في هرة ) يعني بسبب الهرة فإنَّ ( في ) هنا بمعنى الباء، فهنا لازم كلام الشيخ الصدوق(قده) أنَّ ( في الاسلام ) هنا يعني بسبب الاسلام، فهو فسّر ( لا ضرر في الاسلام ) يعني أنَّ الاسلام لا يصير سبباً لتضرّر المسلم، فالمسلم لا يُحرَم من إرث الكافر، بل الكافر لا يرث المسلم، قال:- ( لا يتوارث أهل ملتين، والمسلم يرث الكافر والكافر لا يرث المسلم ....... فأما المسلم فلأيّ جُرمٍ وعقوبةٍ يحرم الميراث وكيف الاسلام يزيده شرّاً مع قول النبي صلى الله عليه وآله" الاسلام يزيد لا ينقص"، ومع قوله " لا ضرر ولا إضرار في الاسلام " فإن الاسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شراً، ومع قوله عليه السلام " الاسلام يعلو ولا يعلى عليه" )[1] .
ولكن هذا التفسير سوف لا نستفيد منه تلك الفائدة المهمة، ونحن الآن لسنا في صدد المناقشة لهذه الآراء وإنما نريد أن نعطي الصورة الاجمالية، والمهم هي الآراء الثلاثة المتقدمة.