الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

42/03/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - شرائط جريان الأصول العملية - مبحث الأصول العملية.

ثم عقد الشيخ الأعظم(قده) مطلباً بعنوان تذنيب[1] :- حيث ذكر فيه أنَّ الفاضل التوني(قده)[2] ذكر أنَّ جريان أصل البراءة بقطع النظر عن الفحص مشروط بشرطين:-

الشرط الأول: - أن لا يكون جريان أصل البراءة في مورده موجباً لثبوت حكم من جهة أخرى، فإذا أجرينا البراءة هنا وكان يلزم من اجراءه وجوب أو حرمة شيء آخر فلا يجري أصل البراءة، وذكر في هذا المجال ثلاثة أمثلة.

الشرط الثاني: - أن لا يكون اجراء أصل البراءة في مورد مستلزماً إصابة شخص آخر بالضرر فإذا كانت البراءة توجب الضرر من زاوية أخرى فلا يجري أصل البراءة لأنه لا ضرر ولا ضرار

وهذا الشرط الثاني الذي ذكره الفاضل التوني أوجب أن يبحث الشيخ الأعظم(قده) عن قاعدة ( لا ضرر ولا ضرار ).فالفاضل التوني قال يشترط في جريان البراءة شرطان الأول ألا يكون اجراء البراءة في مورد موجباً لوجوب تكليف من ناحية أخرى وذكر ثلاث أمثلة: -

المثال الأول: - ما إذا كان لدينا إناءان نعلم بوجوب الاجتناب عن أحدهما لأنه خمر، فهنا إذا أجريت البراءة عن الاناء الأول سوف يستلزم ثبوت حكم من زاوية أخرى في الاناء الثاني وهو وجوب الاجتناب عن الاناء الثاني، وهكذا لو أرد اجراء البراءة في الاناء الثاني فسوف يستلزم وجوب الاجتناب عن الاناء الأول وفي مثل ذلك ذكر ان أصل البراءة لا يجري، لأنَّ حديث البراءة هو حديث نفي وليس حديثاً مثبتاً، فهو يرفع ولا يثبت بينما هنا سوف تثبت وجوب الاجتناب عن الثاني ودليل البراءة ليست له قابلية على الاثبات.

وفي مقام التعليق نقول:- لو كان يمثل بمثال آخر لكان أفضل، كما لو فرض أنَّ وقت الحج قد صار ولا أعلم هل يوجد في ذمتي دين لفلان أو لا وكنت أشك في ذلك فلو كنت مديناً له فسوف أصير غير مستطيع، لأنَّ هذا الدين لابد من دفعه فالاستطاعة تفوت، وإذا فرض أني لست مديناً له بشيء أكون مستطيعاً فهنا إذا أردت أن أجري أصل البراءة عن وجوب قضاء ذلك الدين - لأني أشك هل ذمتي مشغولة لفلان بالدين أو لا - فسوف يثبت أني مستطيع ويجب عليَّ الحج، فإجراء أصل البراءة عن وجوب قضاء الدين يستلزم أني مستطيع ويجب علي الحج، ففي مثل هذه الحالة أصل البراءة لا يجري، لأنه سوف يصير مثبتاً للتكليف من زاويةٍ أخرى، وحديث البراءة حديث نفي لا حديث اثبات.

المثال الثاني: - ما إذا كان لدينا ماء نشك في كريته واصابته نجاسة، فإنَّ اجراء البراءة عن كريته يستلزم نجاسته، فلا يجري أصل البراءة.

المثال الثالث: - ما إذا كان لدينا ماء نعلم بكونه ليس كراً ولكن علمنا بعد فترة بأنه صار كراً ووقعت فيه نجاسة ولكن لا نعلم أنَّ النجاسة وقعت فيه قبل أن يصير كراً أو بعد أن صار كراً، فلا نعلم أنَّ الكرية متقدمة على النجاسة أو بالعكس، فإن كانت الكرية متقدمة على ملاقاة النجاسة فالماء يكون طاهراً، لأنه ( إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء)، أما إذا كان الملاقاة للنجاسة قبل الكرية فالماء يكون نجساً، لأنه تنجّس بالملاقاة وبتتميمه كراً لا يطهر، نعم هو يطهر بإلقاء كرّ مستقل عليه أما بتتميمه كرّاً فلا يطهر، وهنا قال الفاضل التوني إنَّ اجراء أصل البراءة عن كريته هنا يثبت تنجّسه فلا يجري لأنه مثبت لتنجسه.

أما بالنسبة إلى مثال الدَّين ووجوب الحج: - فنحن نقول إنَّ أصل البراءة يجري، لأنَّ أقصى ما يثبت لك أصل البراءة أنك لست مشغول الذمة لفلان بشيء، أما أنه يجب عليك الحج فهذا لا يثبته، وإنما ثبت وجوب الحج بالدليل الخاص الذي يدل على أنه من صدقت عليه الاستطاعة وجب عليه الحج، لأنه ﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ﴾[3] ، وأنت مستطيع، لأنه لا يوجد عليك دين بأصل البراءة، وسوف يثبت وجوب الحج بالدليل الاجتهادي لا بأصل البراءة، فإذاً يجري أصل البراءة ولا محذور في ذلك.

وأما المثال الذي ذكره: - وهو أنه يوجد إناءان أحدهما يجب الاجتناب عنه فإجراء أصل البراءة عن هذا سوف يوجب الاجتناب عن الثاني، فنحن نقول:- إنَّ اجراء أصل البراءة عن الاناء الأول هو يثبت براءة الذمة عن الاناء الأول فقط، أما أنه يجب اجتناب الاناء الثاني وأنَّ ذمتك مشغولة به فهو لا يقول به، فأصل البراءة لا يثبت وجوب الاجتناب عن الاناء الثاني حتى تقول إنَّ أصل البراءة لا يجري لأنَّ حديث نفي لا حديث اثبات، نعم في نفس الوقت نقول لا يجري هذا الأصل ولا ذاك الأصل للتعارض بينهما، إذ نعلم بكذب أحدهما لو جريا معاً، واجراء أحدهما دون الآخر ترجيح من دون مرجح، فلا يجريان معاً، فالنكتة هي هذه وليس ما ذكره.

وأما المثال الثاني: - فنقول إنَّ هذا المثال لا نقبله لمناقشتين: -

الأولى: - إنك أولاً قلت نحن نجري أصل البراءة عن كرية هذا الماء المشكوك كونه كراً أو ليس بكر، وهذا غير صحيح، بل نجري استصحاب عدم الكرية وليس أصل البراءة.

الثانية: - إنَّ تنجس الماء لا نثبته بالاستصحاب، وإنما الاستصحاب يقول إنَّ هذا الماء ليس بكر، أما أنه لاقته نجاسة فلا نثبته بالاستصحاب، وإنما نثبته بالدليل الاجتهادي الذي يقول ( إذا لم يكن الماء بمقدار كرّ فمتى ما لاقته نجاسة فسوف يتنجس )، فإذاً هذا المثال مرفوض من جهتين.

وأما المثال الثالث: - فنفس المناقشتين السابقتين تأتيان هنا: -

الأولى: - لماذا تقول نجري أصل البراءة، بل قل نجري استصحاب عدم تقدم الكرية، فإنَّ أصل البراءة لا مورد له هنا.

الثانية: - إنه بقطع النظر عن هذا فإنه حينما ثبت أنه ليس بكر فبالدليل الاجتهادي يثبت تنجّسه إذا لاقته نجاسة لا بهذا الاستصحاب أو بأصل البراءة، فأصل البراءة أو الاستصحاب لم يصر هو المثبت للنجاسة.


[1] فرائد الأصول، الأنصاري، ج2، ص449.
[2] الوافية، الفاضل التوني، ج1، ص193.
[3] سورة آل‌عمران، آیة 97.