الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

42/03/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - شرائط جريان الأصول العملية - مبحث الأصول العملية.

وقد تذكر بعض مواضع الاستثناء من عدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية في مقام تطبيق البراءة لا أقل الشرعية، ولنستعرض هذه الاستثناءات لنلاحظ أنها تامة أو محل تأمل: -

المورد الأول:- ما ذكره الشيخ الأعظم(قده)[1] وحاصله:- إنَّ التحقق من الموضوع وثبوت الموضوع والعلم بالموضوع إذا كان يتوقف على الفحص بحيث من دون الفحص لا يكن احراز الموضوع فهنا بالدلالة الالتزامية العرفية يجب الفحص لاحراز تحقق الموضوع، قال:- ( إنَّ جعل الحكم على موضوع يتوقف العلم به على الفحص يدل بالملازمة العرفة على جوب الفحص عن ذلك الموضوع )، يعني إذا انصبَّ حكم على موضوع وذلك الموضوع لا يمكن احرازه عادةً إلا بالفحص فهنا يجب الفحص عن الموضوع بالدلالة الإلتزامية، يعني أنَّ العرف في هكذا موارد يفهم من لسان الدليل وجوب الفحص، وذكر لذلك أمثلة، منها مسألة الاستطاعة، فإنَّ وجوب الحج موقوف على موضوع وهو الاستطاعة، فإذا لم يبحث المكلف عن الاستطاعة فبالتالي سوف يفوت الحج عليه، فالمكلف المؤمن لا يمكن أن يثبت لنفسه وجوب الحج إلا بالاستطاعة، فإذا لم يبحث أنه مستطيع أو لا وذلك بحساب أمواله فلا يعرف أنه مستطيع، فوجوب الحج الموقوف على الاستطاعة ﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاعة ﴾[2] فهذا وجوب الحج الموقوف على الاستطاعة يدل بالدلالة الالتزامية العرفية على أنه لابد أن يفحص المكلف عن الاستطاعة مادام لا يمكن احرازها إلا بالبحث والفحص.

والكبرى الكلية التي أفادها مقبولة.وذكر مثالاً ثانياً، وهو أنه لو قال المولى ( أضف أطباء البلد أو علماء البلد، أو أعط كل واحد من العلماء والأطباء والمهندسين ديناراً )، فالعامل الذي يعمل تحت يد المولى لا يعرف أطباء البلد، فلابد أن يفحص عنهم، فلو فحص وشك في كون هذا الشخص طبيباً فيرفع ذلك بالبراءة أو أنَّ ذلك الشخص طبيب فيرفع ذلك بالبراءة .... وهكذا، وعليه فسوف لا يكرم الأطباء ولا العلماء ولا غيرهم وهذا غير صحيح، لأنَّ هؤلاء لا يعرفهم إلا من خلال الفحص والسؤال عنهم، فإذا لم تُرِد الفحص وتجري البراءة عن كون هذا طبيب وبالتالي عن وجوب دفع الدينار إليه يلزم من ذلك تعطيل ذلك الحكم، فنفس اثبات الحكم لموضوع ولا يمكن احراز ذلك الموضوع إلا بالفحص يدل بالملازمة العرفية على لزوم الفحص عن ذلك الموضوع حتى يمتثل ذلك الحكم.

ونحن نضيف إليه بعض المثلة الأخرى: - فمثلاً الشك في مقدار المسافة، فحن نعلم أنَّ مقدار المسافة هي مقدار ثمان فراسخ ولكن هل صارت ثمان فراسخ أو لا، فإذا لم تُرِد الفحص فسوف تبقى شاكاً ولا يمكن أن تحرز ثمان فراسخ إلا أن تصل إلى مسافة بعيدة جداً كالهند مثلاً حتى تحرز ذلك وإلا سوف تبقى شاكاً ولا تحرز المسافة، وهكذا النصاب في باب الزكاة، فإنك لا تحرز النصاب إلا بالفحص، أما إذا لم تُرِد الفحص عن النصاب فحينئذٍ يلزم تفويت الزكاة، وهكذا يمكن أن تذكر أمثلة أخرى من هذا القبيل.

فإذاً الشبهة الموضوعية لا يجب فيها الفحص إلا إذا ثبت الحكم لموضوع وتوقف احراز ذلك الموضوع على الفحص فبالدلالة الإلتزامية العرفية يجب الفحص عن ذلك الموضوع كما في الأمثلة السابقة.

والجواب: - إنَّ الكبرى التي ذكرها عرفية صحيحة - وهي أنه إذا ثبت الحكم لموضوع لا يمكن احراز ذلك الموضع إلا بالفحص فبالدلالة الإلتزامية يحكم العرف بلزوم الفحص - لكنه مثّل لذلك بالاستطاعة وهذا غير صحيح، فإنه في الاستطاعة لا يحتاج إلى لفحص حتى يعرف أنه مستطيع أو لا، إذ المكلف عادةً يعرف ذلك من دون فحص، فصحيح أنه لا يعرف كم هو مقدار المال الموجود عنده بالدقة ولكنه يعلم أنه مستطيع أو لا من دون حساب لأمواله، وهكذا مقدار المسافة، فإنه لا يحتاج إلى احرازها بالفحص وإنما هو يشك أنه هل حصلت ثمان فراسخ أو بقي منها القليل، فلا يلزم أن يقصر المكلف دائماً في صلاته، فإنَّ هذا المحذور لا يلزم.

فإذاً الكبرى الكلية تامة إلا أنَّ الاشكال في وجود أمثلة صادقة على الأرض وليست فرضية مثل ( أعط كل مهندس من مهندسي البلد ديناراً )، فصحيح أنَّ كل مهندس من مهندسي البلد أعطه دينار، أو أعط كل عالم من علماء الهند ديناراً وأنا كنت أعيش في هذا البلد فكيف أعرف علماء الهند؟!! فصحيح هنا أحتاج إلى الفحص عنهم ولكن هذه أمثلة فرضة وليست أمثلة واقعية، أما وجود أمثلة واقعية متعددة على الأرض بحيث يستفاد منها هذه القاعدة فلا يوجد، نعم القاعدة التي أعطاها الشيخ الأعظم(قده) مسلّمة ومقبولة إلا أنَّ الاشكال في احراز الصغرى، فإن أحرزنا الصغرى فما أفاده صحيح.

المورد الثاني:- ما ذكره الشيخ النائيني(قده)[3] وحاصله:- ما إذا فرض أنَّ الفحص لا يحتاج إلى إعمال عناية ومشقة وجهد، كما في دخول الوقت فإنه لا يحتاج في التحقق من دخوله إلى جهدٍ وعناية وإنما يحتاج فقط إلى رفع الرأس مثلاً حتى تعرف ذلك، فهذا المقدار من الفحص لا يمكن أن نقول بأنه ليس بواجب وبالتالي لا تجري البراءة، فلا تستطيع أن تقول أنَّ ذمتي بريئة من صلاة الصبح وتبقى على حالك ولا ترفع رأسك حتى تطلع الشمس، ولماذا يلزم الفحص ؟ لأنَّ هذا المقدار- رفع الراس - لا يصدق عليه أنه فحص، فالبراءة في مثل هذه الحالة لا يمكن جريانها، وكما في إناء الخمر المردّد بين مجموعة أواني والمكلف بمجرد أن ينظر إلى الأواني سوف يعرفه من دون جهد فهنا لا يمكن اجراء البراءة بل لابد أن ينظر إلى الأواني، وحديث ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) أو ( كل شيء لك حلال ) لا ينطبق هنا، لأنَّ هذا المقدار لا يصدق عليه أنه فحص ..... وهكذا في بقية الأمثلة المشابهة.

ويرده: - إنَّ عنوان الفحص لم يرد في لسان الدليل وأنَّ البراءة لا تجري إلا إذا تحقق الفحص حتى تأتي وتقول إنَّ عنوان الفحص هنا لا يصدق، وإنما عنوان الفحص لم يرد في الدليل كشرط للبراءة حتى تقول إنَّ عنوان الفحص لا يصدق هنا فالبراءة حينئذٍ لا تجري إذا لم أفحص، بل البراءة لا تجري وعليك أن تنظر، فنحن نقبل بمدّعى الشيخ النائيني(قده) ولكن نرفض دليله حيث نقول إنَّ الحديث يقول ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون )، وأنا علمي يتوقف على فتح عيني فقط وسوف يصدق عليَّ أني عالم، وحديث الرفع لا يمكن تطبيقه هنا لأني عالم إما بالثبوت أو بالعدم، فإنه عرفاً يصدق هكذا مادام علمي لا يتوقف على مؤونة زائدة وإنما يتوقف على فتح عيني أو رفع رأسي فقط، فهنا نقول إنَّ هذا الشخص عالم، وإذا لم نقل بكونه عالماً نقول إنَّ حديث الرفع منصرف عنه، فإنَّ حديث الرفع ليس وارداً في هذا المورد وإنما هو منصرف عنه، وإنما هذا المورد هو بحكم العالم.

فكان المناسب للشيخ النائيني(قده) أن يعلل عدم جريان البراءة في مثل هذه الحالة لا بما ذكره بل بما ذكرناه، فنحن نوافق الشيخ النائيني(قده) على أنَّ البراءة في هكذا موارد لا تجري ولكن ليس من باب ما ذكره، وإنما من باب أنك عالم مادام علمك يتوقف على رفع رأسك فقط، أو أنَّ حديث ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) منصرف عنك.

فإذاً المورد الثاني صحيح ولكن ليس للتعليل الذي ذكره وإنما للتعليل الذي ذكرناه.

المورد الثالث: - أن نتمسك بفكرة العلم الإجمالي، وذلك بأن نقول: - إذا لم يفحص فسوف نعلم اجمالاً بتحقق المخالفة ولو المخالفة الاجمالية التدريجية وليس الدفعية، يعني إذا لم أرفع رأسي اليوم ولم أرفعه غداً ولا بعد غدٍ فسوف يحصل علم اجمالي بأني مخالف جزماً في يومٍ من الأيام، والمخالفة التدريجية للعلم الإجمالي لا تجوز كالمخالفة الدفعية، فإذاً يجب الفحص حتى تعرف أنه هل تبين الخيط البيض من الخيط الأسود من الفجر أو لا، أو تنظر إلى الأواني حتى تعرف أنَّ هذا الاناء خمر أو ليس بخمر.

والجواب: - نحن نسلّم المخالفة التي تتحقق للعلم الإجمالي ولكن ليست التدريجية، فليس من المعلوم أني مخالفٌ في يوم من الأيام، بل لعلّي مصيبٌ في جميع الأيام، فأنا لا أنظر إلى هذا السائل وأقول هو ليس بخمر وأرتكبه، كما أني لا أنظر إلى طلوع الفجر وأبقى أتناول الطعام، فهنا لا يتبين أنه صارت عندي مخالفة بنحو الجزم في يوم من الأيام وإنما يوجد عندي ظنّ، نعم توجد مخالفة قطعية للعلم الإجمالي ولكن إما في حقي أو في حقك أو في حق المكلف الآخر، يعني من البعيد جداً أنه لا أحد من المكلفين الألف مثلاً الذين يفعلون هكذا ليس مخالفاً وأنهم كلّهم مصيبون، ولكن هذا العلم الإجمالي ليس بمنجّز، وإنما المنجّز هو ما إذا لزم المخالفة القطعية في حقي أنا المكلف لا ما كان في حقي أو في حق المكلف الثاني أو في حق المكلف الثالث .... وهكذا، وهذه مخالفة ليست محرّمة، وإنما المخافة القطعية المحرمة ما إذا كانت في حقي أنا لا المخافة القطعية إما مني أو منك أو من فلان فإنَّ هذه المخالفة ليست محرّمة، فإذاً هذا الوجه ليس بتام.


[1] فرائد الأصول، الأنصاري، ج2، ص445.
[2] سورة آل‌عمران، آیة 97.
[3] فوائد الأصول، النائيني، ج4، ص302.