42/03/02
الموضوع: - شرائط جريان الأصول العملية - مبحث الأصول العملية.
وفي مقام التعليق نقول: - لعل منشأ مقالة العلمين من اختصاص البراءة العقلية بباب الأحكام دون الموضوعات هو كلمة البيان الواردة في القاعدة فإن القاعدة تقول ( إنَّ العقل يحكم بأنه يقبح العقاب بلا بيان )، وحينما جاءت كلمة ( بلا بيان ) فقالا إنَّ البيان يختص وجوبه في باب الأحكام دون الموضوعات فهذه القاعدة خاصة بباب الحكام دون الموضوعات.
الاشكال واضح:- فإنَّ هذه الألفاظ هي من عندنا فلا معنى لأن تتمسك بالألفاظ الواردة في القاعدة والتي هي منّا وإنما من النظر إلى مستند القاعدة، فمثلاً الشيخ النائيني(قده) ذكر مستنداً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان حيث قال إنه من دون بيان لا مقتضي للتحرك، فإذا لم يكن هناك بيان على أنَّ هذا خمر - شبهة موضوعية - وأنا أعلم أنَّ الخمر حرام الماء حلال ولكني لا أعلم بأنَّ هذا السائل خمر أو ليس بخمر فلا مقتضي للتحرك لأنَّ المقتضي للتحرك هو العلم، وأنا لا يوجد عندي علم، فلا يوجد عندي مقتضي للتحرك مادام لا علم، فإذاً المدار على هذا - وهو أنه لا مقتضي للتحرك من دون علم - فإن كانت هذه هي النكتة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان فالمقتضي يصير عند تحقق العلم بالكبرى والصغرى، يعني لابد أن أعلم بأنَّ الخمر حرام وأعلم بأنَّ هذا السائل هو خمر، والعلم بالكبرى وحده لا ينفع بل لابد أن علم بالكبرى والصغرى معاً فآنذاك يصير هذا مقتضٍ للتحرك فعلى هذا الأساس من دون العلم بالصغرى لا يكفي العلم بالكبرى للتحرك بل لابد من ضمّ العلم بالصغرى، فلابد أن تعلم بأنَّ هذا السائل هو خمر فهنا يكون مقتضي الحرك موجوداً وحيث إنه في الشبهات الموضوعية لا يوجد عندنا علم فيقبح العقاب حينئذٍ إذ لا مقتضي للتحرك، فإنَّ التحرك فرع العلم وحيث لا علم فلا مقتضي للتحرك، فيقبح العقاب.
إذاً اتضح أنَّ قاعدة قبح لعقاب بلا بيان تعم الشبهات الموضوعية أيضاً، فعلى هذا الأساس البراءة العقلية - بناء على تماميتها - للشبهات الموضوعية ولكن يبقى أنها هل تختص بما بعد الفحص أو تعم ما قبل الفحص، فيبقى حينئذٍ للتحرك ما هو؟ وقد قلنا إنَّ المقتضي للتحرك هو العلم والمقتضي للعقاب هو أن يكون عالماً بالتكليف، ولكن عالماً بالتكليف بعد الفحص أو قبل الفحص فالعقل ماذا يقول فهل يقول يقبح العقاب بلا بيان بعد الفحص أو أنه يقبح العقاب بلا بيان حتى مع عدم الفحص؟ إنَّ هذه قضية عقلية ولعل أصحاب قاعدة قبح العقاب بلا بيان يعممونها لحالة عدم الفحص، ولكن هذه قضية ليست مهمة، والمهم أن نرى البراءة الشرعية فإن كانت البراءة الشرعية عامة وكانت تشمل حتى ما قبل الفحص فحتى لو فرض أنَّ البراءة العقلية ضيقة ولكن يكفينا البراءة الشرعية، فالكلام هو في البراءة الشرعية وليس في البراءة العقلية، فحتى لو سلمنا البراءة العقلية ولكن نسكت عنها ولا نناقشها لأنها ناشئة من حكم العقل وقد نختلف في سعتها وضيقها، ولكن إذا كانت البراءة الشرعية وسيعة وتعم حالة ما قبل الفحص فلا تصل النوبة على البراءة العقلية، فلنلاحظ البراءة الشرعية، وإذا رجعنا إلى البراءة الشرعية وجدنا أنَّ لسان دليلها عاماً مطلقاً يقول ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون )، فإذاً هي مطلقة وليست مقيدة ببعدية الفحص في الشبهات الموضوعية، نعم في باب الأحكام توجد أدلة وجوب تعلم الأحكام أما في باب الشبهة الموضوعية فلا يوجد عندنا وجوب تعلم الموضوعات وأنَّ هذا خمر أو ليس بخمر وأن ذاك ماء أو ليس بماء، والأدلة التي ذكرناها فيما سبق الدالة على وجوب الفحص خاصة بباب الأحكام أما هنا فأدلة البراءة الشرعية مطلقة من هذه الناحية فنتمسك بإطلاقها بلحاظ الشبهة الموضوعية، نعم بلحاظ الشبهة الحكمية وإن كان هناك مقيد - وقد ذكرناها فيما سبق - أما في الشبهة الموضوعية المقيد ليس بموجود فنتمسك بالإطلاق بلحاظ الشبهة الموضوعية.
مضافاً إلى ذلك قد يقال إنه توجد بعض الروايات التي تدعم عدم لزوم الفحص في الشبهة الموضوعية: -الرواية الأولى: - ما ورد في صحيحة زرارة الثانية حيث قال:- ( فهل عليَّ إن شككت في أنه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال:- لا ولكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك )[1] ، ودلالتها واضحة على أنَّ الفحص ليس بلازم.
وقد يتوقف في هذا الرواية من بعض الجهات: -الأولى: - لعله لا يجب أنه لا أنظر لأنَّ الوجوب النظر يجب للصلاة أما غير الصلاة فلا يشترط طهارة الثوب فيها، كما لو كان يمشي أو يدرّس أو يزور أو ينام فإنَّ هذا جائز، وإنما لا يجوز ذلك في الصلاة فإذا كان في الصلاة فحيث إنَّ مانعية النجاسة في باب الصلاة علمية - ذكرية - وليست واقعية، فلعله من هذه الناحية قال له الامام عليه السلام لا يجب عليك أن تنظر، وهذا الاحتمال موجود، ومادام موجوداً فلا تصلح أن تكون مؤيداً وداعماً، ولا يخفى لطفه.
الثانية: - إنَّ هذه الرواية خاصة بباب الصلاة ولا تنفعنا فيمال وكان يوجد عندي حليب وشككت هل وقعت فيه نجاسة دم مثلا أو لا، فهنا هل يمكننا التمسك بهذه الرواية لا ثبات عدم لزوم النظر؟ كلا لأنها واردة في مانعية الثوب والثوب إنما يستفاد منه في باب الصلاة فبلحاظ الصلاة لا يجب النظر أما بلحاظ الأكل فلعله يجب النظر وعدم وجوب النظر في الثوب لا يدل على عم وجوب النظر في الحليب وأنه أصابه الدم أو لم يصبه لعدم الملازمة بين الموردين لهذه النكتة التي أشرنا إليها.
الثالثة: - إنّه يصعب التمسك بهذه الرواية فإنها واردة في باب الطهارة والنجاسة، فإنَّ الشارع المقدس تساهل في باب الطهارة والنجاسة وتساهله في باب الطهارة والنجاسة لا يدل على أنه تساهل أيضاً في غير باب الطهارة والنجاسة ولا يوجب الفحص، كما لو شككت بأنَّ هذا السائل خمر أو ليس بخمر فهذه ليست مسألة طهارة ونجاسة، فافترض أنَّ الخمر طاهر ولكن هذه ليست مسألة طهارة ونجاسة وإنما هي مسألة حلال وحرام بقطع النظر عن الطهارة والنجاسة، فإذاً التساهل في باب الطهارة والنجاسة لا يلزم منه التساهل في غير باب الطهارة والنجاسة.
فإذاً هذا المؤيد خاص بباب الصلاة للموانع الثلاث المتقدمة.الرواية الثانية:- ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام:- ( ما أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لا أعلم )[2] ، وقد ورد في الرواية أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يرش الماء على ثوبه، وهل هذه الرواية صالحة للتمسّك بها مطلقاً أو في باب دون باب آخر؟ يمكن أن يقال إنَّ هذه الرواية دلت على عدم لزوم الفحص في الشبهة الموضوعية، بل كان أمير المؤمنين عليه السلام ضد الفحص حيث كان يبلل ثوبه بالماء من البداية، فهذه الرواية هي وردة في باب النجاسة فقط ولعله يوجد تساهل من قبل الشراع في باب الطهارة والنجاسة ولا يمكن أن نستفيد منها أنَّ الأمر كذلك في جميع الأبواب.