42/03/01
الموضوع: - شرائط جريان الأصول العملية - مبحث الأصول العملية.
الوجه السادس للزوم الفحص:- وحصله أن يقال: إنَّ الشارع المقدس يهتم بأحكامه وهذه قضية واضحة فإنَّ كل مشرّع يهتم بأحكامه فكيف بمشرع الشريعة الإسلامية الذي ورد عنه ما مضمونه ( حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام على يوم القيامة )، يعني أنَّ هذا معناه أنَّ هذه التشريعات مستمرة، فإذاً هي تشريعات مهمة مأخوذة بعين الاعتبار، وهذه قضية لا تحتاج إلى كلام، فإذاً هذه مقدمة نستعين بها وهي أنَّ الشارع يهتم بأحكامه التي شرعها ككل مشرّع، ثم نضم مقدمة ثانية فنقول:- وإذا شرّع البراءة في مورد عدم العلم بخروج واحدٍ من تلك التشريعات التي يهتم بها فما هو المقصود فهل هو اجرائها من دون فحصٍ عن ثبوت واحدٍ من تلك الأحكام بأن لا يفحص الفقيه عن وجود الحكم في هذه القضية أو عدم وجوده وإنما يجري حديث الرفع رأساً ويطبق اطلاق هذا الحديث وبالتالي يرفع هذا الحكم، لأنه بالتالي ولو نتيجة عدم الفحص يصدق عليّ أني لا أعلم بثبوت هذا الحكم فتثبت البراءة، فهنا نقول إنَّ تجويز اجراء البراءة من دون فحص خلف فرض اهتمام المشرع بأحكامه، فهذا الاهتمام يصير قرينة لبّية متصلة بحديث الرفع ويكون المقصود من ( رفع ما لا يعلمون ) أي في المورد الذي فحص فيه ولا يوجد تشريع لا أنك تغمض العين وتطبق الحديث، وهذه القضية لا تختص بالإسلام فقط وإنما هي قضة دولية رسمية، فالدولة حينما تشرع عدّة قوانين وتقول إنه في حالة عدم جود قانون يرجع إلى التصالح مثلاً، فمقصود المشرع هو أنه إذا فحصت في القوانين ولم تجد واحداً من القوانين بعد الفحص يشمل هذه الحالة ترجع حينئذٍ إلى التصالح، وهذه قضية عقلائية، فكيف بأحكام الاسلام التي يهتم بها المشرّع، فهي قضية عقلائية زائداً اهتمام الشرع المقدس بأحكامه فهذا يصير قرينة لبّية على أنَّ المقصود من ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) يعني في حالة ما إذا ثبت أنه لا يوجد تشريع في هذا الورد نتيجة الفحص لا من دون الفحص فإنَّ هذا خلف الاهتمام بأحكام الشريعة، مضافاً إلى أنها قضية غير عقلائية، فإنَّ العقلاء في القوانين حينما يقولون ترجع إلى التصالح في حالة عدم الحكم فالمقصود أنك ترجع إلى التصالح في حالة الفحص وعدم وجود الحكم، فهذا يشكل ّقرينة متصلة على كون المقصود من ( رفع ) يعني إذا ثبت عندك بعد الفحص أنه لا يوجد حكم وقانون.
وهذا الوجه يغاير ما ذكره السيد الخوئي(قده)[1] :- حيث ذكر أنّ العقل يحكم بلزوم الفحص من باب دفع الضرر المحتمل، إذ لعله يوجد حكم بالتحريم أو بالوجوب وسوف يترك إذا رجعنا إلى اطلاق حديث البراءة، وهنا العقل يحكم بأنه إذا أردت أن ترجع إلى البراءة من دون فحص يوجد احتمال الضرر وهو العقاب، إذ لعلّ الحكم موجود وأنت لم تفحص عنه وغضضت النظر عنه وتساهلت وأجريت البراءة، ومع حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل فلا يمكن التمسك بإطلاق حديث البراءة في المورد لحكم العقل المذكور، وحكم العقل هذا يكون بمثابة القرينة اللّبية المتصلة بحديث الرفع.
وما ذكره قابل للمناقشة: - لأنَّ العقل وإن كان يحكم بلزوم دفع الضرر المحتمل ولكن إذا لم يكن مؤمّن موجود في البين، أما إذا كان المؤمّن موجوداً فالعقل يسحب يده عن حكمه، والمؤمّن هنا موجود، وهو اطلاق حديث البراءة، فالعقل هنا لا يحكم بلزوم الفحص حتى يكون مقيداً، بل يرتفع موضوع حكم العقل، فيكون حكم العقل محكوماً لإطلاق حديث البراءة، وحيث إنَّ اطلاق حديث البراءة موجود فحكم العقل يكون معلقاً، فيبقى اطلاق حديث البراءة وحده من دون حكم العقل.
وهذا بخلاف ما ذكرناه في الوجه الخامس، فالذي ذكرناه هناك هو أنَّ الشرع يهتم بأحكامه وهذا يصير قرينة متصلة بإطلاق حديث الرفع من كون المقصود هو أنه تسمك بحديث الرفع إذا لم يكن هناك حكم ولكن بعد الفحص وليس قبل الفحص، فإنَّ التمسك بحديث الرفع قبل الفحص خلف الاهتمام، فهذا الاشكال لا يرد على ما ذكرناه ويرد على ما ذكره السيد الخوئي(قده).والخلاصة من كل ما ذكرنا: - إنَّ الفحص لازم لا أقل لهذا الوجه السادس، وهو وجه وجداني ويورث الاطمئنان للفقيه بلزوم الفحص، ولعل بعض الوجوه السابقة قد تمت، ولكن سواء تم شيء منها أو لم يتم فالوجه السادس تام.
وبعد أن ثبت وجوب الفحص يبقى السؤال عن مقدار الفحص، فهل يفحص الفقيه لمدة يوم أو لمدة شهر أو لمدة سنة أو سنتين أو ماذا؟والجواب: - ليس هناك تحديد زمني لمدة الفحص وإنما المدار على حصول الاطمئنان، يعني يطمئن الفقيه بأنه لا يوجد دليل يدل على الحرمة أو الوجوب، والمسائل تختلف، فبعضها قد يسرع حصول الاطمئنان فيها وبعضها قد لا يسرع الاطمئنان فيها، كما أنَّ الأشخاص يختلفون، فبعضهم يكون بطيء من حيث حصول الاطمئنان والبعض الآخر يسرع إليه الاطمئنان، فلعل شخص يحصل له الاطمئنان خلال الفحص لمدة يوم وبعضهم قد يحتاج في حصول الاطمئنان إلى أسبوع أو شهر، ولكن الشيء الذي ينبغي أن نقوله هو أنَّ فقهائنا المتقدمون قد ساعدونا كثيراً في تسريع حصول الاطمئنان، لأنه إذا حصلت مسألة من المسائل الآن فإنَّ الروايات الموجودة مرتبة في الكتب ككتاب الوسائل مثلاً وغيره فتراجع تلك الروايات، وهكذا بقية علمائنا كصاحب الجواهر وصاحب الحدائق وصاحب المستند فإنهم تتبعوا الروايات كثيراً، فإذا رأيت أن خمسة أو عشرة من هؤلاء العلماء الكبار ولم نجد واحداً منهم ينقل رواية في هذه المسألة فهذا يساعد في تسريع الاطمئنان، فبدلاً من أن يحتاج الحصول على الاطمئنان لمدة شهر قد يحصل بيوم واحد من الفحص، فالكثير من المسائل الآن الفحص صار فيها يسيراً بينما كان الفحص عسيراً، فمثلاً في مسألة عصير الزبيب وأنه حلال أو حرام ، فهذه مسألة ذكرها الفقهاء وذكروا الروايات والاستدلالات فيها فأنت تذهب وتراجعها فيحصل لك الاطمئنان بسرعة، هذه قضية أردنا لفت النظر إليها.
وهناك قضية ثانية نلفت النظر إليها أيضاً: - هي أنه لماذا تكتفون بالاطمئنان فلماذا يكون الاطمئنان حجة، بل لابد أن تأخذوا بالعلم واليقين؟
الجواب: - إنَّ الاطمئنان حجة أيضاً والوجه في ذلك انعقاد سيرة العقلاء على ذلك، وليس سيرة المتشرعة لأنَّ المشرّع إنما وافقوا على الأخذ بالاطمئنان لا بما هم متشرعة بل لما هم عقلاء وبذوقهم وسجيته العقلائية، فالآن نحن كل امورنا أو أغلبها مبنية على الاطمئنان، فمثلاً أطمئن أنَّ هذا الشخص إنسان جيد فأسجل أمي باسمه وأترك أموالي أمانة عنده أو أزوجه ابنتي وغير ذلك فكل قضايانا ماشية على الاطمئنان وإذا كان شخص لا يعتمد على الاطمئنان فهذا يوجد عنده خلل - كما أن درجات الخلل مختلفة وبعضها الوسوسة وهذا مرض يصيب الانسان - أما الانسان العادي في كل الأمور يعتمد على الاطمئنان، وحيث لا ردع عنه فيثبت بذلك حجيته، إذاً الاطمئنان حجة بلا كلام فمقدار الفحص يتحدد بمقدار حصول الاطمئنان فإنه حجة كما ذكرنا ولا يلزم حصول العلم.
هذا كله بالنسبة إلى الفحص في الشبهات الحكمية، فنحن كلامنا كان في الشبهة الحكمية الكلي فنحن نشك في الحكم الكلي نشك فيه ولا نعرفه، فكلامنا لحد الآن في الشبهات الحكمية وأنَّ ثبوت الحرمة أو ثبوت الوجب إذا كان هناك دليل يدل عليه فحسب الدليل وإذا لم يكن هناك دليل فلابد من الفحص عنه حتى يحصل الاطمئنان بعدم الدليل فنحكم بالبراءة عن حرمة لحكم الأرنب مثلاً أو أنَّ وجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو غير ذلك.هذا كله في الشبهة الحكمية وقد اتضح وجوب الفحص قبل تطبيق البراءة، فإذا لم نعثر على دليلٍ بسبب الفحص فسوف نطبق البراءة آنذاك، والنكتة في وجوب الفحص لا أقل هي الوجه السادي المتقدم.وأما بالنسبة إلى الشبهات الموضوعية: - فالكلام تارة يقع في البراءة العقلية، وأخرى في البراءة النقلية، والبراءة العقلية يعني التي تستند إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان بناء على تماميتها، والبراءة النقلية يعني التي تستند إلى حديث ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) فإنه بإطلاقه كما يشمل الشبهة الحكمية يشمل الشبهة الموضوعية أيضاً.
أما بالنسبة إلى البراءة الشرعية: - فالكلمة متفقة على جواز التمسّك بإطلاق الحديث في الشبهات الموضوعية، فإنه بإطلاقه يشمل الشبهات الموضوعية من دون حاجة إلى فحص، فإنَّ تلك الأدلة التي ذكرناها تختص بالشبهة الحكمية - ولا أقل الوجه السادس -، أما الأحكام الجزئية وهو أنَّ هذا خمر حتى يصير حراماً أو لا فلا يصير حراماً فهذا لم يهتم به، نعم عنده اهتمام بأصل حرمة الخمر أما أنَّ هذا الشيء هو خمر حتى يصير حراماً أو أنه ليس بخمر حتى يصير حلالاً فهذا لم يثبت الاهتمام به، فلم يثبت الاهتمام في الشبهة الموضوعية، فإطلاق حديث البراءة يتمسك به في الشبهة الحكمية.
بل وهكذا يقال بالنسبة إلى البراءة العقلية - يعني يقبح القعاب بلا بيان -:- إذ المعروف جواز التمسّك بالبراءة العقلية من دون حاجة إلى الفحص أيضاً.
بيد أنه خالف في ذلك علمان الحاج ميرزا علي الإيراني(قده)[2] والسيد حسين البروجردي[3] :- حيث قالا بعدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا ببيان في الشبهات الموضوعية، واستندا إلى نكتة واحدة، وهي أنَّ البيان الواجب على الشارع المقدس هو البيان في الشبهات الحكمية، فهو يبين أنَّ الخمر حرام والسرقة حرام والدعاء عند رؤية الهلال واجب..... وهكذا، أما في الشبهات الموضوعية فالبيان ليس بواجب، فلا معنى لتطبيق قاعدة قبح القعاب بلا بيان فإنَّ البيان لازم في باب الأحكام وليس في باب الموضوعات.