الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

42/02/25

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - مسألة ( 87 ) يشترط في البيع أن لا يكون غررياً - الفصل الثالث (شروط العوضين ).

والمهم من هذه التساؤلات الستة هو الأول والثاني وأما البقية فليست مهمة.

أما بالنسبة إلى التساؤل الأول: - فربما يقول قائل إنَّ الصحيحة ليست مجملة بأن يدّعى أنَّ ( وما كان من طعام سيميت فيه كيلاً ) هو كناية عن كونه مكيلاً، فنرفع عبارة ( سميت فيه كيلاً ) ونضع بدلها كلمة ( مكيلاً ) فيصير التعبير ( وما كان من طعام مكيلاً فلا يجوز بيعه مجازفة ) وهذا كناية عن كون الطعام مكيلاً، فلا يجوز بيعه مجازفة، فهذا هو المقصود، وإلا فالاحتمال الثاني ضعيف جداً، والاحتمال الثاني هو ( إذا سميت أني اشتريه بعنوان الكيل منك فلا يجوز مجازفة ) فهذا الاحتمال ضعيف، لأنهما إذا كانا متفقين على شرائه بعنوان الكيل فكيف يصير مجازفة فيما بعد؟!!، فهما قد اشترياه بعنوان الكيل فكيف يأتي الامام عليه السلام بعد ذلك ويقول لا يصح بيعه مجازفةً؟!! بل أصلاً هو لا يصير مجازفةً لأنهما قد اشترياه بعنوان الكيل، فلو اشترياه بعنوان كيل بقدر كذا كيف يصير مجازفة فإنَّ هذا لا يتصوّر، فإذاً يتعين أن يكون المقصود من عبارة ( سميت فيه كيلاً ) هو الكناية عن كون الطعام مكيلاً، فالإمام عليه السلام يريد أن يقول مادام الطعام مكيلاً فلا يجوز بيعه جزفاً.

ولكن في المقابل نقول:- إنه يوجد احتمال آخر فتصير الصحيحة مجملة، والاحتمال الآخر وهو أن نقول إنَّ عبارة ( وما كان من طعام سميت فيه كيلاً ) فإنَّ ( سميت فيه كيلاً ) ليس كناية عن كونه مكيلاً فإنَّ هذا ضعيف، لأنَّ كل الطعام هو مكيل ولا يوجد طعام ليس مكيلاً فلا معنى لأنَّ يأتي الامام عليه السلام ويقول إذا اشتريته بعنوان الكيل، وإنما يشترى دائماً بالكيل، فكون جملة ( سميت فيه كيلاً ) كناية عن كونه مكيلاً ضعيف، لأنَّ كل فرد من أفراد الطعام هو مكيل، فإذاً لابد أن يكون المقصود ليس الكناية عن كونه مكيلاً وإنما اشتريناه بعنوان إناءٍ مملوء بالرز مثلاً فأقول له اشتريت منك هذا الإناء من الرز، فنقول إنَّ هذا ناظر إلى القبض، فمادمنا قد أجرينا البيع على إناءٍ مملوء من الرز مثلاً فلا يجوز في مقام الإقباض أن يصير الإقباض جزافاً، فعبارة ( فلا يجوز بيعه مجازفة ) ناظرة إلى مرحلة القبض، وبناءً على هذا لا تدل الرواية على أنَّ كل مكيل لا يجوز بيعه جزفاً، وإنما غاية ما تدل عليه هو أنه إذا اشتري الشيء بشرط كونه يساوي كيلاً معيناً كإناءٍ من الرز مثلاً فلا يجوز في مقام القبض الدفع جزافاً وهذا ليس محل كلامنا، إنما محل كلامنا هو أنّ الأشياء المكيلة في حدّ ذاتها هل يجوز شراؤها جزافاً لا قبضها كالرز هو مكيل ولكن جئت ورأيت شخصاً قد وضع مقداراً من الرز على الأرض ولا أعلم كم هو مقداره فأقول له أنا أشتري هذا الرز الموجود فإنَّ هذا جزفاً، ونحن نريد أن نثبت أنَّ مثل هذا البيع لا يجوز، وهو أنَّ الشيء المكيل في حدّ ذاته لا يجوز شراءه جزافاً، ولسنا ناظرين إلى مرحلة القبض وإنما في مرحلة الشراء والبيع إذا كان الشيء مكيلاً لا يجوز بيعه جزافاً، وهذه الرواية حمّالة وجوه، فيحتمل أن يكون المقصود هو الاحتمال الأول ويحتمل أن يكون المقصود هو الاحتمال الثاني، فكلا الاحتمالين موجود، والذي ينفعنا هو الاحتمال الأول، ولكن يضعفه إنَّ كل طعامٍ هو مكيل، ولكن لنقبل من هذه الناحية ونقول إنها ناظرة إلى حالة ما إذا كان الشيء مكيلاً في حدّ نفسه لا تجوز عملية شراءه جزافاً وهذا ينفعنا، ولكن قلنا هذا مضافاً إلى أنَّ كل طعام مكيلاً فلا يحتاج أن يقول الامام عليه السلام إذا اشتريت الطعام المكيل، فهذا الاحتمال مضافاً إلى ضعفه في نفسه يحتمل أن يكون المقصود هو أنه إذا وقع الشراء على عنوان كيل معين كما لو اشترى منه بمقدار ملئ إناء معين مثلاً ففي مقام القبض لابد أن يكون بمقدار ذلك الإناء الذي اتفقا عليه لا أنه يسلّمه المبيع جزافاً فإنه لا يجوز أن يسلّمه المبيع جزفاً، فكلا الاحتمالين موجود، ولو قلت إنَّ عملية القبض خارجة عن المعاملة أو أنَّ كلامنا ليس فيها، ولكن نقول إنَّ هذا صحيح ولكن الرواية تحتمل ذلك، فالاحتمال الثاني موجود كالاحتمال الأول، وعليه فسوف يحصل إجمال في الرواية ولا يمكن الاستدلال بها على عدم جواز بيع أو شراء الشيء إذا كان مكيلاً أو موزوناً أن يباع أو يشترى جزافاً.

فإذاً اتضح أنَّ الرواية يصعب التمسك بها لإجمالها.

أما بالنسبة إلى التساؤل الثاني: - فقد قال الشيخ الأعظم(قده)[1] دفعاً لهذا الاشكال - وهو أنَّ الرواية ألغت مقالة البائع يعني أنَّ قوله ليس حجة وهذا مخالف للروايات الأخرى - إنَّ هذه الرواية يمكن حملها على حالة ما إذا باع أو اشترى زاد أو نقص عن المقدار المذكور، فصحيح أنه أخبر بأنَّه اشترِ الحمل الثاني مني فإنَّ فيه ما يساوي الحمل الأول وهذا الشخص الثاني اشتراه بعنوان زاد أو نقص عن الأول وإذا كان الأمر هكذا فهذا لا يجوز كما قال الامام عليه السلام، فنحن نحمله على هذا الاحتمال، وأما إذا فرض أنه اشتراه اعتمادً على قول البائع فهذا ليس جزافاً فالإمام عليه السلام لماذا ردع وقال إنه جزافا ًفلا يجوز، فلابد أن نقول هو اشتراه بعنوان زاد أو نقص مادام لا يصدق عنوان جزافاً إذا اشتراه اعتماداً على قول البائع.

وفي التعليق على ما أفاده نقول: - صحيح أنه إذا اشتراه اعتماداً على قول البائع لا يصدق الجزاف وأنت قلت إذا لم يصدق عنوان الجزاف فلا موجب للحكم بالبطلان ولذلك نحن صرنا مضطرون على حملها على ما إذا اشتراه المشتري زاد عن هذا المقدار أو نقص عنه وإلا إذا اشتراه اعتماداً على إخبار البائع فلا يصدق الجزاف فلا موجب للبطلان، ولكن نحن نقول:- صحيح أنه لا يصدق أنه جزافاً إذا اشتراه اعتماداً على إخبار البائع ولكن إذا لم يصدق الجزاف فهل هذا يعني أنه صحيح، كلا بل من المحتمل أنَّ موجب البطلان أحد أمرين إما الجزاف وإما الاعتماد على إخبار البائع فإن إخبار البائع بما هو هو يكون من الموانع، فإنَّ الرواية تريد أن تثبت أنَّ إخبار البائع بنفسه مانع، نعم أنت غاية ما تقول هو أنه مخالف للروايات الأخرى، ولكن هذا شيء آخر، فإذاً لا ينفعنا كلام الشيخ الأعظم(قده).

وفي مقام الجواب نقول:- صحيح أنه توجد عندننا روايات أخرى تدل على أن البائع لو أخبر جاز الاعتماد على إخباره، منها ما رواه محمد بن حمران[2] ، وما وراه عبد الرحمن بن أبي عبد[3] ، ولكن نقول إنَّ هذه الرواية لا تنافي هذه الروايات الأخرى الدالة على جواز الاعتماد على إخبار البائع فإن تلك الروايات ناظرة إلى حالة ما إذا قال البائع إني قد وزنت أو كِلتُ هذا الشيء فهنا نعتمد على إخباره فإنَّ هذا إخبارٌ حسّي والروايات قد دلت على جواز الاعتماد على إخباره، أما لو قال إنَّ ما في الحمل الثاني يساوي الحمل الأول فهو لم يخبر بأنه كال الحمل الثاني وإنما هو يخبر بأنه مساوٍ له وهذا إخبارٌ عن حدس وليس عن حس، وعليه فهذه الرواية لا تنافي تلك الروايات.

إذاً اتضح أنَّ الاشكال الثاني قابل للاندفاع لأجل أنَّ الروايات الأخرى ناظرة إلى حالة الإخبار الحسّي من قبل البائع، بينما مورد روايتنا ناظرة إلى حالة الإخبار الحدسي دون الحسّي فلا تعارض تلك الروايات.

فإذاً التساؤل الأول هو المهم دون الثاني.

وقبل أن ننهي الكلام في هذه الصحيحة نقول:- إنَّ الكلام الذي يقول إنَّ الرواية تدل على أنَّ إخبار البائع عن الكيل أو الوزن ليس حجة وهو يعارض الروايات، فهنا يأتي تساؤل:- وهو أنه إذا اشتملت الرواية على شيء مرفوض فهل نرد كامل الرواية أو نردّ الفقرة المرفوضة فقط - أي نبعّض بين الفقرات -؟

قال البعض نردّ كل الرواية، وقد تقبل بذلك بادئ ذي بدء، وقال البعض الآخر نبعّض في الأخذ بفقراتها فنطرح الفقرة التي فيها إشكال ونأخذ بالفقرات المقبولة، وممن ذهب إلى ذلك صاحب الجواهر(قده) في بعض المباحث حيث ذكر في هكذا مورد وايتان واحدة منهما تشتمل على ما لا يمكن قبوله والأخرى لا تشتمل على ذلك، فقال إنَّ البعض قال نحن نأخذ بالرواية التي لا تشتمل على ما يمكن قبوله وأما التي تشتمل على ما لا يمكن قبوله فنردّها، وهو أراد أن يناقش هذا الرأي فقال لماذا نردّ الرواية التي تشتمل على ما لا يمكن قبوله فإنَّ هذا غير صحيح وإنما نحن نبعّض فيها، قال ما نصّه :- ( نعم المقدار الزائد في دلالتها لا يعمل به لأج المعارض ولا محذور في التفكيك )[4] ، وربما بقية من العلماء يقول بذلك.

والمناسب أن يقال: - نحن لابد أن نرجع إلى مدرك حجية الخبر، والمدرك المهم ليس إلا السيرة العقلائية على الأخذ بإخبار الثقة وما جاء من نصوص ما هو إلا دعم وتأييد إلى هذه السيرة والارتكاز العقلائي، وإذا رجعنا إلى الارتكاز العقلائي أو السيرة فلو فرض أنَّ شخصاً نقل لنا كلاماً وكان بعضه مرفوضاً وبعضه الآخر كان مقبولاً فهنا هل نأخذ بكلامه أو لا، فنحن نعلم بكذب بعض خبره فهل نأخذ به أو لا؟ إنه لا أقل السيرة والارتكاز العقلائي في مثل هذه الحالة ليس بواضح على التفكيك، ولذلك بعض الإذاعات التي تنقل بعض الأخبار الكاذبة نقول دع هذه الإذاعة ولا تسمعها لأنها تنقل أخباراً كاذبة، فحتى أخبارها الأخرى نتوقف فيها، وهذا التوقف يعني أنَّ العقلاء لا يرون فكرة التبعيض.


[1] كتاب المكاسب، الأنصاري، ج3، ص211.
[2] وسائل الشيعة، الشیخ الحر العاملي، ج17، ص345، أبواب عقد البيع وشروطه، ب5، ح4، ط آل البيت.
[3] وسائل الشيعة، الشیخ الحر العاملي، ج17، ص346، أبواب عقد البيع وشروطه، ب5، ح8، ط آل البيت.
[4] جواهر الكلام، الجواهري النجفي، ج17، ص367.