42/02/22
الموضوع: - شرائط جريان الأصول العملية - مبحث الأصول العملية.
ويمكن أن يقال في مقام التعليق:- نحن نسلّم أنَّ الطائفة الثانية قالت:- ﴿ لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها ﴾ يعني إلا ما أوصله إليها، يعني جعله في مضان الوصول من خلال أئمة أهل البيت عليهم السلام والرواة والكتب الأربعة، فغاية ما يدل عليه هو هذا أما إذا شككنا هل يوجد دليل في الكتب الأربعة مثلاً على التكليف أو لا يوجد فهل يجب الفحص فهذا شيء مسكوت عنه، فإن الآية الكريمة تقول إذا لم يكن الدليل موجوداً فأنت غير مكلَّف، أما إذا شككت أنَّ الدليل على التكليف موجود أو ليس بموجود فلابد أن تفحص حتى تلاحظ أنه موجود أو غير موجود فهذه قضية مسكوت عنها ولم تتعرض إليها الآية المباركة، فلا ينفعنا هذا الكلام.
الدليل الثالث:- أن يقال: لو كانت البراءة تجري من دون حاجة إلى فحص يلزم حصر الشريعة المقدسة في حكم واحد، بل هذا الحكم الواحد هو بمثابة عدم الحكم، يعني سوف ترجع الشريعة الإسلامية إلى حكمٍ واحد وهو ( كل شيء شككت فيه فاجري البراءة عنه)، فإن شككت في وجوبه فاجري البراءة عنه وإن شككت في حرمته فاجري البراءة عنه، فإذاً انحصرت الشريعة في حكمٍ واحد وهذا لا يلتزم به أحد، بل هذا الحكم الواحد هو بمثابة عدم الحكم، لأنه حينما يقول ترجع إلى البراءة يعني أنه لا يوجد حكم، يعني توجد إباحة، ومعنى الاباحة أنه لا يوجد حكم، فأنت لست ملزماً بشيء.
ويرده: -أولاً: - إنَّ البراءة لا تجري إلا بعد الفحص، فكل من يقول بالبراءة فهو إنما يقول بها فيما إذا فحص المكلف، وبالفحص قد يعثر على أحكام لا أنه لا يعثر على حكم أبداً، فنتيجة هذا الحكم الواحد ليس هو إطلاق العنان والحرية الكاملة بل لابد أن تفحص وربما تعثر على الكثير من الأحكام، لا أنه صارت نتيجة الرجوع إلى البراءة هي الحرية الكاملة وإطلاق العنان، كلا لا يرجع إليها إلا بعد الفحص ه بالفحص نحصل على أحكامٍ كثيرة.
ثانياً: - إنه حتى قبل الفحص توجد أحكام كثيرة ثابتة من دون الحاجة إلى الفحص وهي من أوليات الإسلام، وهي الضروريات كحرمة القتل وحرمة السرقة وحرمة الزنا وحرمة شرب الخمر وحرمة الكفر وما شاكل ذلك فإنَّ هذه الأحكام ثابتة من دون فحص.
الدليل الرابع: - هناك نصوص دلت على وجوب الفحص: -
من قبيل الآية الكريمة ﴿ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ﴾[1] فإنَّ هذه الآية الكريمة أوجبت النفر حيث قال ﴿ فلولا نفر ﴾ ولولا هي أداة حضيض وهي الطلب بشدّة، فلولا نفر أي ذهبوا على البلاد التي فيها الأحكام، أي بلاد الأحكام كالمدينة المنورة وكالنجف الأشرف أو قم في زماننا أو ما شاكل ذلك، فإذاً الآية الكريمة أوجبت التفقّه في الدين والتعلّم ولازمه عدم جواز اجراء البراءة إلا بعد الفحص لأنها أوجبت التفقه، والتفقه هو تعلّم الأحكام فلابد أن تتعلّم الأحكام وتعرفها وذلك لا يكون إلا بالفحص عنها وآنذاك تجري البراءة.
ومن قبيل معتبرة مسعدة بن زياد حيث جاء فيها: - ( سمعت جعفر بن محمد عليه السلام وقد سئل عن قول الله تعالى " فلله الحجة البالغة " فقال عليه السلام:- إنَّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي أكنت عالماً فإن قال نعم قال أفلا عملت بما علمت، وإن قال كنت جاهلاً قال له أفلا تعلمت حتى تعمل فيخصمه وذلك الحجة البالغة لله عز وجل في خلقه ) [2] [3] وغيرها من الروايات الأخرى.
فإذاً الآية والرواية دلتا على وجوب الفحص وهذا معناه أنَّ البراءة لا تجري من دون فحصٍ، إذ لو كانت تجري من دون فحصٍ فسوف يكون تفقه الأحكام تعلمها لا حاجة إليه بل نجري البراءة رأساً.
وأشكل عليه الشيخ العراقي(قده) بإشكالات ثلاثة: -الاشكال الأول[4] : - إنَّ هذه النصوص لا تفيد أكثر من البراءة العقلية، فهي تقول إذا لم تكن هناك حجة فلا تكليف، فهي ترشد إلى حكمٍ عقلي وأنه لابد من الفحص حتى تحصّل الأحكام، فهي ليست ارشاداً إلى قبح العقاب بلا بيان وإنما هي ارشاد إلى حكم العقل بلزوم الفحص، ولكن نقول صحيح أنَّ العقل يحكم بلزوم الفحص أولاً لأنَّ الشريعة الإسلامية موجودة ولكن أدلة البراءة النقلية مثل ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) أو ﴿ لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها ﴾ مقدّمة على هذا الاحتياط العقلي، فصحيح أنه عقلاً يلزم الفحص ولكن العقل إنما يحكم بلزوم الفحص إذا لم يحكم الشرع بعدم لزوم الفحص، وحيث إنَّ أدلة البراءة ترفع كل شيء لا يُعلَم فحينئذٍ هي ترفع هذا الوجوب العقلي، لأنه لم يُعلَم من قبل الشرع فيكون مرفوعاً، فإنَّ كل حكم عقلي إنما يكون حجة ويلزم الأخذ إذا لم يحكم الشارع على خلافه، وهنا حيث حكم الشارع على الخلاف بحديث ( رفع عن أمتي ) فيرتفع هذا الحكم العقلي.
ويرده: -أولاً: - أنت قلت إنَّ هذه النصوص ترشد إلى حكم العقل، ولكن نقول إنَّ هذه دعوى لا دليل عليها، وإنما نقول إنَّ هذه أحكاماً شرعية لا أنها إرشاد إلى حكم عقلي، فمثلاً بالنسبة إلى آية النفر فإنَّ وجوب التفقّه هنا هو حكم شرعي وليس عقلياً، فكون هذه الآية واردة كإرشاد إلى حكمٍ عقلي هي أوّل الكلام بل هي مجرد دعوى، فلا تستطيع أن تقول إنَّ هذا حكم عقلي وكل حكم عقلي إنما يلزم الأخذ به فيما إذا لم يكن هناك حاكم عليه وأدلة البراءة الشرعية ترفع هذا الحكم العقلي لأنه ليس عليه دليل شرعي، فكون هذه الآية أو الرواية ترشد إلى حكم العقل هي مجرّد دعوى.
ثانياً: - إذا كان هذه الآية أو الرواية تريد أن ترشد إلى حكم عقلي وبالتالي هذا الحكم العقلي محكوم للبراءة الشرعية فلماذا نطوّل الطريق، بل علينا أن نقول من البداية لا يجب على المكلف الفحص والبحث، لا أننا نقول له إنه في معتبرة مسعدة بن زياد يجب عليك الفحص ثم نقول له بعد ذلك إنَّ وجوب التعلّم هذا مرفوع عنك بأدلة البراءة الشرعية فإنَّ هذا لا داعي إليه، بل لابد أن يقول الشرع من البداية لا يجب عليكم الفحص، لا أنه يقول ( أوّلاً يجب عليكم الفحص ) كإرشاد إلى الحكم العقلي ثم يرفعه بأدلة البراءة الشرعية فإنَّ هذا لا معنى له.