الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

42/02/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - التنبيه السابع ( الدوران بين الأقل والأكثر في الشك في المحصِّل ) - الدوران بين الأقل والأكثر - مبحث أصالة الاشتغال ( الشّك في المكلف به )- مبحث الأصول العملية.

ويجدر الالتفات إلى هذه المطالب الثلاثة: -

المطلب الأول: - المحصِّل للواجب تارة يكون محصلاً شرعياً وأخرى يكون محصلاً عرفياً، ومثال المحصل الشرعي ما لو كان الواجب في باب الضوء والغسل هو عنوان الطهارة ولكن لا ندري أنَّ المحصِّل لعنوان الطهارة هو التسعة أو العشرة، وهنا قال المشهور بالاشتغال، ولكن نحن قلنا إنه يمكن أن يقال بالبراءة، وتارةً يفترض أن المحصِّل عرفياً وليس شرعياً كما لو فرض أنَّ المحارب يجب قتله ولكن ما هو المحصِّل للقتل فمرة يفترض أنه يتحقق ذلك بموت الدماغ وتوقفه أو أنه يتحقق بتوقف القلب عن العمل وموته، ففي هذا المورد شككنا أنَّ المحصِّل للقتل أو الموت يكفي فيه توقف الدماغ - الذي قد يعبر عنه بالموت السريري - أو يحتاج إلى أكثر من ذلك فلابد من توقف القلب ولا يكفي توقف الدماغ - وإن كان توقف الدماغ لعله مرتبة من مراتب الموت - فالواجب هو الموت، وهو أنَّ المحارب في الأرض يقتل ولكن لو شككنا أنه هل يلزم تحقق كلا الموتين للقلب والدماغ أو يكفي موت الدماغ فقط، فهنا الشك يكون شكاً في المحصِّل العرفي، وهنا لا يبعد أن يقال بلزوم الاشتغال دون البراءة، وذلك لأنَّ الشرع قال أنا أريد الموت أما أنَّ الموت بمَ يتحقق فهذه قضية يرجع بها إلى العرف، فإذا شك عرفاً أنَّ الموت يتحقق بموت الدماغ وتوقفه فقط أو لابد من ضم توقف القلب ففي مثل هذه الحالة لابد من الجزم بتحقق الموت أو القتل، والشارع ترك القضية إلى العرف، ولا مجال اجراء أصل البراءة أو ما شاكل ذلك، وإنما القضية متروكة إلى العرف، فلابد أن نجزم بتحقق الموت، ونحن لا نجزم بتحققه بتوقّف الدماغ، بل لابد من ضم توقف القلب.

المطلب الثاني: - إنه في باب الطهارة إن المطلوب هو الطهارة ولكن ما هي الطهارة فهل هي الغسلات والمسحات، فهل الواجب هو الغسلات والمسحات كما لعله يساعد عليه ظاهر الآية الكريمة حيث تقول ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وايديكم ..... ﴾[1] ، أو أنَّ الطهارة هي شيء مسبَّب من الغسلات والمسحات، ويوجد احتمال ثالث نضيفه وهو أن نقول إنَّ الواجب هو الطهارة ولكن ليست الطهارة المسببة عن الغسلات والمسحات وإنما المنطبقة والمتحدة، فهناك نحو اتحاد بين الطهارة وبين الغسلات والمسحات فالعنوان متحد مع المعنون، ولا تقل كيف يتحد العنوان مع المعنون؟ ولكن نقول إنَّ المطلوب هنا هو الطهارة ولكنها ليست شيئاً مغايراً للغسلات والمسحات، فالطهارة تحصل بالغسلات والمسحات وتكون منطبقة على الغسلات والمسحات - لو افترضنا أنَّ هذا الاجتمال معقول - وليست مغايرة.

أما على الاحتمال الأول: - فهنا ينبغي أن يتفق الكل على أنه لو شككنا أن المضمضة جزءاً أو ليس جزءاً فهذا ليس شكاً في المحصل وإنما هو شك في أصل الوجوب وأنَّ الوجوب هل تعلق بالتسعة أو بالعشرة، فهنا ينبغي أن يكون هناك اتفاق على أن الأقل جزمي الوجوب أما الزائد فتجري البراءة عنه، وهذا خارج عن محل النزاع.

وأما على الاحتمال الثاني: - فقد حصل اختلاف فيه فقال المشهور أنه من الشك في المحل وهو مجرى للاشتغال، ولكن نسب إلى الميرزا الشيرازي الكبير(قده) أنه يمكن أن يقال بالبراءة، ونحن أيدناه في ذلك.

وأما على الاحتمال الثالث: - فمادام الواجب هو الطهارة المتحدة لا المغايرة فالمورد لا يكون من الشك في المحصِّل، يعني سوف يصير كأن الطهارة هي كلي مشكك فهل الطهارة هي التعسة أجزاء أو الطهارة هي العشرة أجزاء، لأنَّ الطهارة هنا متحدة مع الأجزاء والشرائط، فعلى هذا الأساس الطهارة المتحدة مع التسعة جزماً هي مطلوبة أما البراءة المتحدة مع العشرة نشك في طلبها فجري البراءة، والشك هنا ليس في المحصِّل إنما الشك في متعلّق الوجوب وأن متعلّق الوجوب هو الطهارة مع التسعة أو متعلّق الوجوب هو الطهارة المتحدة مع العشرة، وهذا شك في متعلَّق الوجوب وليس في المحصِّل فينبغي أن يتقف الجميع على إلحاق هذه الصورة بالصورة الأولى وهو جريان البراءة.

المطلب الثالث: - هناك أبحاث ذكرها الأصوليون في مبث دوران الأمر بين الأقل والأكثر - يعني الشك في الجزئية والشرطية والمانعية - من قبيل أنه لو شك في كون جزء هو جزء ولكنه جزء ركني أو غير ركني فإن كان ركنياً فتبطل الصلاة بتركه ولو سهوا أو جهلاً وإن لم يكن ركنياً فيمكن علاجه ولا تبطل به الصلاة، ومن قبيل إذا نسي المكلف جزءاً من الأجزاء فهل القاعدة والأصل يقتضي ثبوت الجزئي للشيء المنسي - يعني في حالة النسيان هو باق على جزئيته - أو ان جزئيته تختص بحالة الذكر والالتفات؟ فإن قلنا عن جزيته ثابتة حتى في حالة النسيان لزم إعادة الصلاة، وإن قلنا عن جزئيته مختصة بحالة الالتفات، ومن قبيل أنه لو تعذر أحد الأجزاء فهل القاعدة تقتضي شمول الجزئية حتى لحالة التعذر أو تختص بحالة التمكن وعدم التعذر ولازمه إذا تعذر أحد الأجزاء وقلنا عن الجزئية تشمل حالة التعذر، فعلى هذا الأساس لا يكون هو الواجب ولابد من الانتقال إلى بدله إن كان له بدل، وإن لم يكن جزءاً في حالة التعذر فجزئية المتعذّر تكون ساقطة فيأتي بالممكن أما جزئية العاشر تكون ساقطة.

هذه أبحاث بحثها الأصوليون في مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين - يعني الشك في الجزئية والشرطية والمانعية - ولأجل ألّا يطول علينا البحث نترك هذه الأبحاث وننتقل إلى ما هو الأهم.

 

الضابط في كون المورد من البراءة أو الاشتغال.

وفي هذا المجال نقول: - إنَّ كل حكم من الأحكام التكليفية يحتاج إلى أمور ثلاثة متعلق وموضوع وقيد، مثلاً ( تجب الصلاة على البالغ العاقل إذا دخل الوقت )، فـ( تجب ) هو الحكم، ومتعلَّق الحكم هو الصلاة، فالصلاة يصطلح عليها بالمتعلَّق، والبالغ العاقل يسمّى بالموضوع.

وقد يقول قائل: - كيف أفرق بين المتعلَّق والموضوع؟

قلنا: - إنه قد يقول قائل إنَّ المتعلق ما تعلَّق به الحكم، والموضوع ما كان موضوعاً للحكم.

ولكن هذه التفرقة غير صحيحة:- بل الصحيح في التفرقة بينهما أنَّ الشيء الذي يطلب تحقيقه فعلاً أو تركاً مثل ( تجب الصلاة ) فالصلاة يطلب تحقيقها فعلاً، أو يقال ( يحرم القمار ) فالقمار يطلب تركه فهذا الشيء الذي يطلب فعله أو يطلب تركه هو المتعلَّق، فميزان في معرفة متعلَّق الحكم هو ما يطلب فعله أو يطلب تركه، فيصير الحج متعلَّقاً والصلاة تصير متعلَّقاً لأنه مطلوب تحقيقهما، وكذلك ( يحرم القمار ) و ( يحرم شرب الخمر ) فهذا مطلوب تركه، فالشرب يصير متعلَّقاً، وكذلك ( تحرم السرقة )، فالسرقة متعلَّق، وكذلك ( تحرم الخيانة ) فالخيانة مطلوبٌ تركها فهي متعلق، فما يطلب فعله أو تركه هو المتعلَّق.

وأما الموضوع: - فهو ما يطلب تحقيقه أو تركه وإنما إذا فرض تحققه فسوف يأتي الحكم، كما في ( تجب الصلاة على البالغ )، فإنَّ البلوغ لا يجب تحقيقه وإنما إذا صرت بالغاً تجب الصلاة علي، فـ ( تجب الصلاة ) يعني إيجاد الصلاة على البالغ يعني إذا فرض تحقق البلوغ، فبلوغ المكلف يكون موضوعاً.

فإذاً صار الفرق بينهما واضحاً، فالمتعلَّق ما يلزم فعله أو تركه، بينما الموضوع لا يلزم فعله أو تركه وإنما إذا فرض تحقق الموضوع صدفة واتفاقاً فآنذاك يطلب تحقيق المتعلَّق فعلاً أو تركاً.

وأما الشرط أو القيد: - وهو ( إذا دخل الوقت ) في ( تجب الصلاة على البالغ إذا دخل الوقت ) فهو واضح، فهو قيد الحكم أي قيد الوجوب.


[1] سورة المائدة، آیة 6.