الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

42/02/02

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - التنبيه السادس ( الشبهة الموضوعية للأقل والأكثر )، التنبيه السابع ( الدوران بين الأقل والأكثر في الشك في المحصِّل ) - الدوران بين الأقل والأكثر - مبحث أصالة الاشتغال ( الشّك في المكلف به )- مبحث الأصول العملية.

التنبيه السادس: - الشبهة الموضوعية للأقل والأكثر.

الأقل والأكثر تارةً يكونان في شبهة حكمية وهذا ما تقدم الحديث عنه، وأخرى يكونان في شبهة موضوعية وهذا ما نريد التحدث عنه.

والشبهة الحكمية في الأقل والأكثر هو ما تقدم عندنا، كما لو كنّا لا ندري أنَّ الصلاة هي تسعة أجزا أو عشرة بـأنَّ السورة هل هي جزء منها أو لا، فإن كان جزءاً صارت عشرة، وإن كانت ليست جزاءً صارت تسعة فهذا دوران أمر الواجب - وهو الصلاة - بين الأقل والأكثر ولكن في الشيء الكلي، فمتى ما كان المشتبه في الشيء الكلي فهي شبهة حكمية، فإن الشبهة الحكمية تلازم أن يكون المشتبه حكماً كلياً، كما لو شككت أنَّ أصل التدخين حرام أو لا فهذه شبهة حكمية، فالشبهة الحكمية هي دائماً تكون في أمر كلي، والأقل والأكثر على مستوى الشبهة الحكمية قد تقدم عندنا، وهو الشك في جزئية السورة وأنَّ الصلاة مركبة من تسعة أجزاء أو من عشرة، فهذا هو الأقل والأكثر في شبهة حكمية.

والذي نريد أن نبحثه الآن هو الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية - أو الشبهة الموضوعية في الأقل والأكثر -، كما لو فرض أنا نعلم بأنَّ لباس المصلّي إذا كان من أجزاء حيوان فيلزم أن يكون من أجزاء حيوان يؤكل لحمه لا من أجزاء حيوان لا يؤكل لحمه حتى لو كان طاهراً، فإنه توجد عندنا موثقة عبد الله بن بكير التي دلت إلى أنه لا تجوز الصلاة في غير مأكول اللحم، وقد اتفقت كلهمة الفقهاء على ذلك، ولكني شكك أن الحزام هل هو من حيوان لا يؤكل لحمه أو لا، أو أني أعلم أنه من حيوان مأكول اللحم ولكن هل هو مذكى أو غير مذكى فهذه شبهة موضوعية، فأنا أعرف الحكم الكلي ولا أعرف الحكم الجزئي - أي الحكم في هذه القضية الشخصية - فما هو المناسب؟

إنه في الشبهة الحكمية عند الدوران بين الأقل والأكثر انتهينا إلى البراءة عن الجزئية أو الشرطية المشكوكة، أما بالنسبة إلى الشبهة الموضوعية فيمكن أن يقال بالبراءة أيضاً، وذلك ببيان: أنَّ مانعية ما لا يؤكل لحمه أو مانعية الشيء النجس وغير ذلك هي مانعية انحلالية تنحل بعدد أفراد ما لا يؤكل لحمه في الخارج، فإذا كان عندنا مائة شيء لا يؤكل لحمه فالمانعية سوف تصير بعدد هذه المائة، فهي تنحل إلى مائة مانعية، لا أنَّ المانعية تبقى واحدة، بل يصير هذا مانع وذاك مانع وذاك مانع .... وهكذا إلى المائة، وهذا مثل شرب الخمر، فإنَّ شرب الخمر حرام جزماً أما الخمر المشكوك فنجري فيه البراءة، لأنَّ حرمة الخمر انحلالية بعدد أفراد الخمر، فنشك هل هذا فرد من الخمر أو لا وبالتالي هل له حرمة، فهذا شك في أصل وجود الحرمة فيكون مجرى البراءة، وهنا الأمر كذلك فإنَّ مانعية ما لا يؤكل لحمه من صحة الصلاة هي انحلالية بعدد أفراد ما لا يؤكل لحمه، فأشك في هذا الفرد الجديد هل هو فردٌ لما لا يؤكل لحمه ولمانعية ما لا يؤكل لحمه، فهذا شك في أصل وجود المانعية الجديد، فيكون ذلك مجرى للبراءة.

وأصل المطلب ولبّه هو في أنَّ المانعية انحلالية أو غير انحلالية، فإن قلنا بأنها غير انحلالية فيلزم الاحتياط، فلابد أن أحرز عدم تحقق المانعية، وأما إذا قلنا بأنها انحلالية فمانعية هذا الجلد مشكوكة فيؤمّن منها بأصل البراءة كما قلنا في باب الخمر، كما لو شككنا أنَّ هذا خمر أو ليس بخمر فهنا يوجد شك في خمرية هذا الشيء فيكون مجرى للبراءة، ولا أقول إنَّ الخمر حرام فلابد من الفراغ اليقيني لأنَّ الاشتغال اليقيني ستدعي الفراغ اليقيني، فإن هذا لا يأتي هنا، وإنما هذا يتم فيما إذا كانت المانعية واحدة فصحيحٌ هنا الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، أما إذا كانت المانعية منحلة بعدد الأفراد فأنا سوف أشك في وجود هذه المانعية الجديدة المشكوكة، فإنه يوجد شك في أصل وجودها واشتغال الذمة بها فيكون مجرى للبراءة.

والخلاصة من كل هذا: - إنه إذا أراد الشخص أن يصلي في شيءٍ مشكوك كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه أو لا فهنا إن كان مأخوذاً من سوق المسلمين فسوق المسلمين أمارة على كونه مأخوذاً من مأكول اللحم، وأما بقطع النظر عن سوق المسلمين فيمكن أن نقول إنَّ المانعية انحلالية فنشك في مانعية هذا الحزام من الصلاة فنجري أصل البراءة.

وبهذا يتضح الحال في مسألة اللباس المشكوك، فقد اتضح أنَّ المناسب هو اجراء البراءة، والنكتة هي كون المانعية انحلالية، ولذلك فالذي يريد الدخول في مسألة اللباس المشكوك فالشيء المهم الذي يلزم أن يسلط الضوء عليه هو كون المانعية انحلالية أو وحدانية، فإن كانت انحلالية فلا مشكلة، وحيث أنها انحلالية بالوجدان كما قلنا ذلك في حرمة شرب الخمر فإنها هناك انحلالية، ولذلك في الخمر المشكوك نجري البراءة، ولا نقول إنَّ أصل الخمر هو حرام فيلزم الامتثال اليقيني بتركه وذلك لا يحصل إلى بالفراغ اليقيني من خلال ترك مشكوك الخمرية، كلا بل يقال إنَّ خمرية هذا وحرمته مشكوكة فتكون مجرى للبراءة، وموردنا أيضاً كذلك.

التنبيه السابع: - الدوران بين الأقل والأكثر في الشك في المحصِّل.

الدوران بين الأقل والأكثر تارة يكون في مقام أصل التكليف، وأخرى يكون في المحصِّل - أي المحصِّل للواجب - فمثلا ًشككنا أنَّ المضمضة واجبة في الوضوء أو لا، فهذا دوران بين الأقل والأكثر، فإن كانت المضمضة واجبة فسوف تصير أجزاء الوضوء عشرة مثلاً وإذا لم تكن واجبة فسوف تصير الأجزاء تسعة، فإن قلنا إنَّ الوجوب متعلق بنفس الغسلات والمسحات كما لعله يقتضيه ظاهر الآية الكريمة التي تقول ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وايديكم .. ﴾ [1] فالوجوب متعلّق بالغسلات والمسحات، فإذا شكننا أنَّ المضمضة واجبة أو ليست واجبة فهذا دوران بين الأقل والأكثر في نفس الواجب لا في نفس المحصِّل للواجب، وهذه هي المسألة المشهورة وفيها القيل والقال وكان حديثنا عنها وأنه هل تجري البراءة أو الاشتغال وقد انتهينا إلى البراءة، أما هنا فهو في الدوران بين الأقل والأكثر ولكن لا في نفس الواجب بل في المحصِّل للواجب، يعني نقول إنَّ الواجب في الصلاة هو الطهارة لا الغسلات والمسحات ولكن المحصِّل للطهارة هو الغسلات والمسحات، فالغسلات والمسحات ليست هي الواجبة وإنما هي المحصِّل للواجب الذي هو الطهارة، فإن كانت هي نفسها متعلّق الوجوب فقد قلنا إنَّ هذا هو البحث السابق فإنه يصير دوران بين الأقل والأكثر في نفس الواجب والذي انتهينا فيه إلى البراءة عن الجزئية أو الشرطية المشكوكة، أما الآن فالدوران هو بين الأقل والأكثر في المحصِّل للواجب، يعني أن نفترض أن الواجب ليس هو الغسلات والمسحات وإنما الواجب هو الطهارة ولكن لا ندري أنَّ المحصل للطهارة ما هو فهل هو التسعة من دون المضمضة أو العشرة مع المضمضة، فهنا وقع الكلام في الشك في المحصِّل للواجب هل هو مجرى للبراءة أو هو مجرى للاشتغال؟

لعل المعروف هو الاشتغال: - والنكتة واضحة، لأنَّ الواجب معين وهو الطهارة وليس فيه دوران بين الأقل الأكثر، ولكن لا نردي هل الواجب يحصل بالتسعة أو لا يحصل إلا بالعشرة، والعقل هنا يحكم بإنَّ الاشتغال اليقيني بالطهارة - التي هي الواجب - يستدعي الفراغ اليقيني، ولا يحصل الفراغ اليقيني إلا بالاتيان بالجزء المشكوك أي بالاتيان بالعشرة.

ولكن قد يقال بالبراءة: - وقد نسب هذا إلى الميرزا محمد حسن الشيرازي(قده).

وما يمكن أن يستدل به على لزوم الاحتياط في باب الشك في المحصل ما يلي: -

الدليل الأول: - وهو قد اتضح من كلامنا، وذلك بأن يقال: إنَّ ما اشتغلت به الذمة ليس مردداً بل هو شيء معلوم، وإنما يكون ما اشتغلت به الذمة مردداً في الشبهة الحكمية، كما لو كنّا لا نعلم بأنَّ أجزاء الصلاة تسعة أو عشرة، فلا ندري أنَّ الذمة اشتغلت بتسعة أو بعشرة، أما هنا فالواجب هو الصلاة مع الطهارة، فالذمة قد اشتغلت بالصلاة مع الطهارة ولكن لا ندري ما هو المحصل للطهارة فهل تحصل بتسعة أو بعشرة، فهنا الشك ليس شكاً بما اشتغلت به الذمة بل ما اشتغلت به الذمة معيّن وهو الطهارة وإنما الشك هو في المحصِّل للطهارة وأنه تسعة أو عشرة، والمناسب في مثل ذلك هو الاشتغال، فإن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، إذ اشتغلت ذمتنا جزماً بالصلاة مع الطهارة فلابد أن تفرع ذمتك جزماً من الصلاة مع الطهارة، ولا ندري هل يحصل الفراغ بالاتيان بالتسعة - من دون المضمضة - أو بالعشرة - أي مع المضمضة -، فالاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، وقد اشتغلت الذمة بالصلاة مع الطهارة وأنا لا أتيقن بفراغ ذمتي إلا بالاتيان بالوضوء مع المضمضة ومن دونه لا يحصل عندي فراغ يقيني، فالشك هنا ليس في أصل التكليف، إنما يكون الشك في أصل التكليف فيما إذا كان متعلّق التكليف هو نفس الأجزاء والشرائط، أما إذا كان متعلّق التكليف هو الطهارة أما الأجزاء والشراط فهي محصِّل فالشك سوف لا يكون فيما اشتغلت به الذمة بل في فراغ الذمة فيما أتيت به وعدم الفراغ، وهذا يصير مجرى للاحتياط.

وفي ردّ هذا الدليل نقول: - إنه يمكن أن نقول بالبراة، وذلك ببيان: أنه يمكن أن نقول إنَّ الطهارة بالمرتبة التي تتوقف على حصول تسعة أجزاء قد اشتغلت بها الذمة جزماً، أما الطهارة التي يتوقف حصولها على فعل عشرة أجزاء فأشك في اشتغال الذمة بها، فنحن نشكك في أصل ما اشتغلت به الذمة، فأنا أشك في أنَّ ذمّتي اشتغلت بالصلاة المقيدة بالطهارة الحاصلة من عشرة أجزاء - أي أشك في اشتغالها بهذا المقيّد المجموع - أو أنها اشتغلت بالصلاة المقيدة بالطهارة الحاصلة من تسعة أجزاء، وهذا شك في أصل التكليف، نعم أنا أتيقن بأنَّ الصلاة المقيدة بالطهارة الحاصلة من تسعة حزماً قد اشتغلت بها الذمة وقد أتيت بالصلاة المقيدة بالطهارة الحاصلة من تسعة أجزاء، وأما الصلاة المقيدة بالطهارة التي يتوقف حصولها على عشرة أجزاء فأشك في اشتغال الذمة بها، وهذا يكون شكاً في أصل الاشتغال فيكون مجرى للبراءة.

وبهذا تغلبنا على المشكلة، فنحن حولنا الشك في فراغ الذمة وعدم فرغها بالاتيان بالتسعة من دون العشرة إلى الشك في أصل التكليف فيكون مجرى للبراءة بالبيان الذي ذكرنا، ولا يخفى لطفه.


[1] سورة المائدة، آیة 6.