الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

42/01/26

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - التنبيه الخامس ( دوران الأمر بين التعيين والتخيير ) - الدوران بين الأقل والأكثر - مبحث أصالة الاشتغال ( الشّك في المكلف به )- مبحث الأصول العملية.

عودة إلى ما كنا فيه:- كان كلامنا فيما سبق تحت عنوان الدوران بين التعيين والتخيير وقد قلنا في هذا المجال إنَّ الدوران بين التعيين والتخيير تارة يكون عقلياًً وأخرى يكون شرعياً، وقد مثلنا للدوران العقلي بالإكرام والاطعام لا نعلم هل الواجب هو الاكرام أو الاطعام، فإن كان هو الاكرام فالعقل يخيرني بين أفراده التي منها الاطعام، وإن كان الواجب هو الاطعام فيتعين الإطعام وهذا لا كلام فيه وحكمه حينئذٍ البراءة، فإذا أتى بفرد ثاني وشك فيوجب الإطعام عليه فإنه يجري البراءة، ولكن المهم هو الدوران بين التخيير والتعين الشرعيين، وقد قلنا إنَّ هذا له عدّة صور.

الصورة الأولى: - وهي قد مرت، وهي أن نفترض أنَّ الاطعام واجب جزماً ولكن لا ندري هل الصيام واجب بنحو التخيير بينه وبين الاطعام كبديل على الصيام أو لا فما هو الحكم؟ قلنا إنه إذا صمنا فسوف نشك في وجوب الإطعام فنجري البراءة عن وجوب الاطعام، ونتيجة ذلك هي التخيير عملاً، ثم نقلنا كلامان أحدهما للشيخ النائيني(قده) مع التعليق عليه والآخر للشيخ العراقي(قده) مع التعليق عليه وانتهينا من هذا المطلب.

والآن نعود إلى ما كنا فيه ونقول:- كان كلامنا في الصورة الأولى وحكمنا بالبراءة لأنه عند الاتيان بالصيام نشك في وجوب الاطعام فتجري البراءة عن الاطعام، والآن نريد مواصلة كلامنا السابق فنقول: - إنَّ هذا الذي ذكرناه من جريان البراءة عند الاتيان بالصيام نجري البراءة عن وجوب الاطعام يتم بناءً على أنَّ التخيير الشرعي يرجع إلى قضية مشروطة، يعني يجب عليك هذا إن لم تأتِ بذاك ويجب عليك ذاك إن لم تأتِ بهذا، فإذا أرجعنا التخيير الشرعي إلى وجوبين مشروطين فيأتي هذا الكلام ما ذكرناه وهو أنه عند الاتيان بالصيام نشك في وجوب الاطعام فنجري البراءة.

وأما إذا بنينا على المسلك الثاني في تفسير حقيقة الوجوب التخييري وهو عبارة عن وجوب متعلّق بالجامع والجامع هو عنوان الأحد، يعني يجب عليك أحد الأمرين أو أحد الأمور، فإن أرجعنا الوجوب التخييري إلى وجوب متعلّق بالجامع ففي مثل هذه الحالة المناسب ما هو الحكم؟

ربَّ قائل يقول: - إنه على هذا المسلك يمكن أن يقال باشتغال ما في الذمة هو منحل انحلالاً حقيقياً، باعتبار أنَّ الوجوب التخييري متعلّق بالأحد ويوجد عندي أحد أعلم بوجوبه جزماً وهو الإطعام، فينحل العلم الإجمالي انحلالاً حقيقياً، فصحيح أنا يوجد عندي علم إجمالي بوجوب الأحد ولكن حيث أنَّ الأحد واجب عندي جزماً وهو الاطعام فسوف ينحل العلم الإجمالي انحلالاً حقيقياً.

ويرده:- إنَّ الانحلال الحقيقي مرفوض هنا، لأنَّ متعلق الوجوب التخييري هو مفهوم الأحد بينما الثابت وجوبه جزماً هو الواحد الخارجي، والواحد الخارجي ليس هو نفس مفهوم الأحد، فهما ليسا معاً مفهومين أو هما معاً أمرين خارجيين حتى يصير انحلالاً حقيقياً، فإنَّ الانحلال الحقيقي شرطه أن يكون المعلوم التفصيلي مصداقاً حقيقياً للمعلوم الإجمالي والمفروض أن هذا الوجود الخارجي ليس مصداقاً للمفهوم فإذن ذاك عالم مفهوم وهذا عالم خارج فالمصداقية الحقيقية غير متحققة، ولكن لو كانت المصداقية الحقيقية موجودة فالنتيجة سوف تصير هي تعين الاطعام ويصير ضيق على الكلف، ولكن الأنسب أن يقال بالانحلال الحكمي دون الحقيقي، يعني نقول نحن نشك في الوجوب التعييني للإطعام فتجرري البراءة عن الوجوب التعييني، وأما وجوب الأحد فلا تجري البراءة عنه لأنَّ الأحد واجب جزماً لأنه معلوم، ومع الجزم بوجوبه لا يمكن إجراء البراءة.

إذاً البراءة تجري عن تعيّن هذا ولا تعارَض بالبراءة عن وجوب الأحد، واعلى هذا الأساس النتيجة هي الوجوب التخييري.وبهذا اتضح أنه على كلا المبنيين في حقيقة الوجوب التخييري النتيجة واحدة وهي التخيير.

وأما إذا بنيا على المبنى الثالث في حقيقة الوجوب التخييري:- وهو ما ربما يظهر من الشيخ الخراساني(قده)[1] من أنَّ مرجع الوجوب التخييري إلى وجود غرضين لزوميين متعاندين أحدهما ينافي الآخر، فإما هذا الغرض يتحقق أو ذاك يتحقق ولا يصح تحققهما معاً، فإن بنينا على هذا فسوف تصير النتيجة في موردنا هي أنه إذا أتينا بأحد الفردين كما لو جئت بالصيام فسوف أشك هل وجوب الثاني تعييني أو تخييري فإن كان تعييناً فيلزم تحصيل غرضه وإن كان تخييرياً فلا يمكن تحصيل غرضه لأني أتيت بالصيان فحصلت الغرض فأشك هل يمكن تحصيل غرض الإطعام أو لا ؟ فإن كان تعيينياً فيمكن تحصيل هذا الغرض وإن كان تخييرياً فلا يمكن تحصيل هذا الغرض، وفي مثل هذه الحالة يصير المورد من الجزم بوجود الغرض وإمكان تحصيله والعقل يحكم بلزوم تحصيله، وسوف تصير النتيجة على رأي صاحب الكفاية ليست هي التخيير وإنما تصير هي إما أن تأتي بالإطعام الذي هو مجزٍ جزماً وأما إذا لم تأت بالإطعام وأتيت بالصيام فسوف يصير شكاً في تحصيل الغرض فيجب تحصيله، فعلى مبناه يلزم أن نقول إنَّ المورد من الشك في الغرض فيلزم تحصيله.

هذا كله في الصورة الأولى من صور الدوران بين التعيين والتخيير.

الصورة الثانية للتعيين والتخيير: - وهي أن يعلم بوجوب فعلين معاً كالصيام الإطعام ولكن لا يدري هل يوجد وجوب تعييني لهذا ولذاك أو هو تخييري بينهما، فالمناسب هنا اجراء البراءة عن الوجوب التعييني، وبذلك تكون النتيجة هي الوجوب التخييري.

وقد تعترض تقول: - لماذا لا تجري البراءة عن الوجوب التخييري كما أجريت عن الوجوب التعيين أوليس هذا ترجيحاً بلا مرجح؟

قلت: - إنّ أصل البراءة الذي مدركه حديث ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) جاء للتوسعة على العباد لا للتضييق عليهم، واجراء البراءة عن الوجوب التعييني للإطعام فيه توسعة على المكلف، لأنه بالتالي سوف يصير مخيراً، أما إجراء البراءة عن الوجوب التخييري للصيام فسوف - يعني لا يوجد تخيير بينهما - يستلزم التضييق، لأنَّ نتيجته سوف تصير تعيّن الاطعام، وهذا تضييق، وأصل البراءة جعل للتوسعة والمنَّة وليس للتضييق، وهذا ضد التوسعة.


[1] كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ج1، ص141.