الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

42/01/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - التنبيه الرابع ( دوران الأمر بين وجوب الخاص ووجوب العام ) - الدوران بين الأقل والأكثر - مبحث أصالة الاشتغال ( الشّك في المكلف به )- مبحث الأصول العملية.

ونحن نقول: - صحيح أنَّ الخصوصية الذاتية تنتزع من مقام الذات فالإطعام في ذاته هو خاص سواء كان الأمر موجوداً أو ليس بموجود ولكن ما ربطه بمقامنا؟!! فنحن كلامنا في جوب الخصوصية الذاتية لا في نفس الخصوصية الذاتية، فنحن كلامنا في وجوبها لا أنَّ الخصوصية الذاتية كيف تتحقق، فإنها ذاتية تنتزع من الذات كما قال والأمر يدور بين خصوصيتين ذاتيتين فإنَّ هذا كله صحيح ولكن هذا ليس محل كلامنا وإنما محل كلامنا في الوجوب والتكليف فهل كلفنا بالعام - أي تلك الخصوصية الذاتية - أو كلفنا بهذه الخصوصية الذاتية وهي الخاص فإنَّ الكلام في التكليف وليس في نفس الخصوصية الذاتية ونفس التكليف بالخصوصية الذاتية وهي خصوصية الاطعام مشكوكة كالشك في التكليف بخصوصية الاكرام فعلى هذا الأساس نقول إنَّ الكلام هو في الشك في التكليف لا في نفس الخصوصية فإذا كان الشك في نفس التكليف فلو أتينا بفردٍ من الإكرام غير الاطعام بأن أعطيناه مالاً فهذا إكرام، فحينئذٍ الوجوب إن كان متعلقاً بالإكرام فقد تحقق الامتثال لأن فرداً من أفراد الاكرام قد تحقق أو أنه تعلق بخصوصية الإطعام فلا يكفي الاكرام غير الإطعام، فعند الاتيان بتلك الخصوصية وهي الإكرام بإعطائه مالاً نشك في تعلّق الوجوب بهذه الخصوصية وهي الإطعام فنجري البراءة.

صور الدوران بين التعيين والتخيير: -

إنَّ الدوران بين التعيين والتخيير تارة يكون عقلياً وأخرى يكون شرعياً ومثال العقلي ما ذكرناه مع صاحب الكفاية فإنَّ الواجب هل هو الاكرام بأي مصداق من مصاديقه أو الواجب هو خصوص الاطعام الذي هو فرد من الاكرام، هذا هو دوران بين التعيين والتخيير عقلاً وليس شرعاً، فإن كان الواجب هو الاكرام فالعقل يحكم بالتخيير وإلا فسوف يحكم بالتعيين وهذا دوران بين التعيين والتخيير، هذا وضح لا كلام فيه.

إنما الكلام في القسم الثاني وهو الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي، وله صور: -

الصورة الأولى: - وهي أنَّ نعلم بوجوب الاطعام وأنه مجزٍ جزماً ولكن نشك شرعاً أنَّ الشرع هل أوجب خصوص الاطعام أو أوجب مطلق الاكرام ولو بإعطائه مالاً، فهنا يوجد دوران للأمر شرعي بين وجوب خصوص الاطعام أو وجوب مطلق الاكرام، وإذا كان الشرع قد أوجب الاكرام بجميع افراده فهذا معناه أن الشرع خيرني بين أفراد الاكرم من اطعام أو إعطاء مال أو غير ذلك، وفي مثل هذه الحالة المناسب ما ذكرناه فيما سبق حيث نقول إني لو أكرمته بغير الاطعام فسوف اشك في وجوب الاطعام وهذا شك في ثبوت التكليف بالإطعام فنجري البراءة عن خصوصية الاطعام.

وقد يخطر إلى الذهن يقال: - إنه يوجد عندنا قاعدة الاشتغال اليقيني فإنَّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني والفراغ اليقيني لا يحصل إلا بالإطعام لأني إذا اطعمت فسوف يحصل لي فراغ الذمة يقيناً فلماذا لا تطبق قاعدة الاشتغال اليقيني؟

والجواب واضح: - حيث نقول إنه لا يوجد اشتغال يقيني بالإطعام بخصوصه بل لعلها مستغلة بمطلق الاكرام نعم الاطعام مجزي أما أنَّ الذمة مشتغلة به بخصوصه فلا، فلا يمكن تطبيق قاعدة الاشتغال اليقيني.

ففي موردنا نقول لو أطعمت فهو مجزٍ جزماً، ولكن لو أكرمت بغير الاطعام فسوف أشك في وجوب الاطعام فأجري البراءة، فالمناسب أن يقال هكذا.

ويوجد كلامان في المقام أحدهما للشيخ النائيني والآخر للشيخ النائيني: -

أما الشيخ النائيني(قده)[1] فقد قال: - إنه لو أتيت بغير الإطعام كما لو أعطيته مالاً أو أني أتيت بالصيام ولم أطعم فهنا سوف أشك هل سقوط التكليف أو لم يسقط واللشك في السقوط يكون مجرى للاشتغال.

وفي الجواب عن هذه الشبهة نقول:- صحيح أنه يوجد عندنا شك في السقوط ولكن الشك في السقوط له منشآن، فمرة يعلم بأنَّ الذمة قد اشتغلت بالإطعام مثلاً وأشك هل أطعمت أو لم أطعم، فأنا أعلم أنه يجب الكفار ولكن لا أعلم هل دفعت الكفارة أو لا فهذا هو مورد الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، أما إذا فرض أني أجزم بأن لم آت بذلك المتعلق الذي هو الاطعام وإنما أتيت بفرد آخر وأشك بان هذا الفرد الآخر لعل يزيل ذلك الوجوب أذ لعل أصل وجوب الاطعام هو مشروط بعدم الصيام أو بعدم إعطاء المال أو غير ذلك فهنا الشك في السقوط لم ينشأ من الشك في الامتثال بل من احتمال عِدليَّة ما أتيت به للإطعام فيكون وجوب الاطعام مشروطاً بعدم هذا الذي أتيت به فالشك يصير شكاً في أصل الاشتغال لأنَّ الاشتغال بالإطعام مشروط بعدم عِدله فالشك يصير شكاً في أصل الاشتغال لأن الاشتغال بالإطعام مشروط بعدم الاتيان بعدله وأنا احتمل أنَّ هذا عِدلٌ فيصل عندي شك في أصل الاشل من البداية فيكون مجرى للبراءة.

فنحن حولنا المورد من الشك في السقوط إلى الشك في أصل التكليف ويكفينا الاحتمال، فنحن إذاً نقول إن ورد الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ما إذا شك الشخص بالاتيان بالمتعلق وعدم الاتيان به ولكن إذا جزم بعدم الاتيان ولكن أتى بما يحتمل كونه عِدلاً، فالإتيان به سوف يصير سبباً للشك في ثبوت التكليف من البداية في ذلك الفرد الأول وهو الاطعام، فيصير المورد من الشك في ثبوت الاشتغال من البداية فيكون مجرى للبراءة، وعلى هذا الأساس لا يعود إشكال في المورد.

وإذا قال الشيخ النائيني(قده) تغلباً على ما ذكرناه: - لنقل إنَّ وجوب الاطعام مطلق والصيام أو إعطاء مال أو غير ذلك هو مسقط لا أنه شرط لثبوت التكليف بذاك، فإذا كان مسقطاً ونشك أنَّ هذا مسقط أو ليس مسقط فيصير المورد من الشك في السقوط وهو مجرى للاشتغال.

فيردّه: -

أولاً: - إذا كان الصيام وافياً بالمصلحة كالإطعام فلماذا يصير مسقطاً؟!! بل لابد أن يصير وجوباً تخييرياً مشروطاً لا معنى لأصل المسقطية.

ثانياً: - ولو تنزلنا وقلنا إنَّ ما ذكرناه من الوجوب المشروط أوليس احتمالاً وجيهاً؟!! فصحيح إنه ليس بمتعين وصحيح أننا نريد أن نسلّم بأننا لا نجزم به ولكنه محتمل ثبوتاً، وإذا صار محتملاً فحينئذٍ وجود جزم بثبوت التكليف بالإطعام من البداية ليس بموجود، فيكفينا الشك والاحتمال، وبذلك تجري البراءة.


[1] فوائد الأصول، النائيني، ج3، ص428.