الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

42/01/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - التنبيه الثاني - الدوران بين الأقل والأكثر - مبحث أصالة الاشتغال ( الشّك في المكلف به )- مبحث الأصول العملية.

التنبيه الثاني: - وحاصله هو أنا قلنا فيما سبق المناسب هو البراءة لأنَّ الأقل معلوم الوجوب والأكثر مشكوك الوجوب فتجري البراءة عنه، هذا هو توجيه البراءة في الشك في الجزئية وقد تقدم.

أما في هذا التنبيه فنريد أن نذكر إشكالاً وهو أنه رب قائل يقول:- صحيح أنه إذا مشينا بهذا الشكل نستطيع أن نقول إنَّ التسعة معلومة الوجوب والجزء العاشر مشكوك الوجوب فتجري البراءة عنه، ولكن يوجد إشكال وشبهة إذا حللناها فالأمر يكون كما قلنا، والمشكلة هي أنه حينما أتيت بالتسعة أجزاء من دون أن أضم الجزء العاشر سوف أشك في سقوط الوجوب فإنَّ الوجوب إذا كان متعلقاً بالتسعة فقد سقط وإذا كان متعلقاً بالعشرة لم يسقط، وبعد الجزم بثبوت الوجوب والشك في سقوطه يجري استصحاب بقاء الوجوب ويبقى هذا الاستصحاب يلاحقن إلى أن آتِ بالجزء المشكوك، وسوف تصير النتيجة بناءً على هذا هي الاشتغال فيجب الاتيان بالعشرة ولا يكفي الاتيان بالتسعة.

وهذا الاستصحاب هو من استصحاب الكلّي من القسم الثاني، وهو أنَّ يدور الأمر باليقين بالبقاء واليقين بالارتفاع ومثاله أني اعلم بوجود حيوان له خرطوم مردّد إما هو البق أو الفيل قد حبسته في الغرفة، فإن كانت بقَّة فهي سوف لا تبقى ليوم أو يومين، أما إذا كان فيلاً فهو باقٍ، فهنا يوجد تردد بين متيقن الارتفاع وهو البق وبين متيقن البقاء وهو الفيل، والمعروف جريانه، وهنا الأمر كذلك فإن كان الوجوب متعلقاً بالتسعة فقد سقط بالامتثال لأني أتيت بالتسعة، وإن كان الوجب متعلقاً بالعشرة فأنا لم آت بالعاشر فالوجوب باقٍ، فالأمر دائر بين الجزم بسقوط الأمر والجزم بالبقاء فيجري استصحاب بقاء الوجوب، والنتيجة هي أنَّ الاتيان بالتسعة لا تكفي، لأنَّ الاستصحاب يقول إنَّ ذمتك لازالت مشغولة بالوجوب إلى أن تأتي بالجزء العاشر، والنتيجة هي الاشتغال.

وقد يخطر إلى الذهن فيقال: - إنَّ هذا الاشكال منحل لأجل أنَّ التسعة نعلم بأن وجوبها كان موجوداً وقد سقط بالاتيان بها أما وجوب العشرة فنشك في أصل وجوده فلا يجري الاستصحاب.

والجواب: - إنَّ هذا يأتي فيما إذا كان الأقل والأكثر استقلاليين أما إذا كانا ارتباطيين فالوجوب إذا كان متعلقاً واقعاً بالعشرة فالإتيان بالتسعة لا يقط وجوب التسعة وإنما يكون امتثال التسعة وسقوطه مرتبد بسقوط الأمر بالعشرة فالشك يصير في أصل السقوط فيجري استصحاب بقاء الأمر.

ومن المعلوم أننا بهذا الاستصحاب لا نريد أن نثبت وجوب العشرة وعدم وجوب التسعة، فنحن لا نريد أن نقول إنَّ الواجب هو العشرة دون التسعة، وإنما نحن نشك في سقوط وجوب التسعة، لأنه إذا كان وجوب التسعة ارتباطي فهو باقٍ، فنحن لا نريد أن نثبت تعلّق الوجوب بالعشرة حتى تقول هو أصل مثبت، كلا بل بالاتيان بالتسعة نشك بسقوط الأمر بالتسعة لأنه إذا كان ارتباطياً فلا يسقط.

وقد أجاب السيد الشهيد(قده) [1] [2] :- بأنه ماذا تقصد من استصحاب بقاء الوجوب، فهل تريد أن تثبت من خلال استصحاب بقاء ذلك الوجوب المتعلّق بالأجزاء؟ فإن كان الوجوب باقٍ بعد الاتيان بالتسعة فهل تريد أن تقول إذاً هو متعلّق بالعشرة، فإن أردت أن تقول هذا فهو أصل مثبت، وإن أردت أن تقول إني أريد أن أثبت جامع الوجوب وكلّي الوجوب وأصل الوجوب هو باقٍ لا أنه متعلّق بالعشرة حتى يصير أصلاً مثبتاً ولا بالعشرة وإنما أريد أثبت الوجوب الجامع لا أكثر من ذلك فهنا لا يلزم محذور الأصل المثبت ولكن وجوب الجامع الذي كان ثابتاً بالعلم الوجداني لا يقتضي الاتيان بالجزء المشكوك، لأننا نقول إنَّ التسعة معلومة الوجوب والزائد مشكوك الوجوب، فالوجوب المعلوم بالوجدان - يعني قبل الامتثال - فقبل أن أشرع في الصلاة يوجد علم وجداني بالوجوب وهذا العلم الوجداني لا يقتضي الاتيان بالجزء العاشر وإنما يكفي لتحققه وامتثاله الاتيان بالتسعة، لأنه يوجد علم بالتسعة، وحينئذٍ أشك في تعلق الوجوب بالجزء العاشر، فإن أردت أن تثبت أصل الوجوب الكلي فنحن نقول إنَّ أصل الوجوب الكلي الذي كنّا نعلم به بالوجدان قبل أن ندخل في الصلاة كان لا يقتضي الاتيان بالعشرة وإنما يكتفى في امتثاله بالاتيان بالتسعة، لأنَّ التسعة معلومة الوجوب والزائد مشكوك فكيف بالجامع المعلوم لا بالوجدان بل معلوم بالعلم التعبدي - أي بالاستصحاب - فهذا أولى في أن لا يكون مقتضياً لوجوب الاحتياط؟!!

وفيه: - نحن نريد أن نذكر شقاً ثالثاً، وهو أنَّ المكلف لو أتى بالتسعة وسلّم فهنا يأتي إلى الذهن أنه هل سقط الوجوب أو لم يسقط لأنه يحتمل أنه متعلّق بالعشرة، فإذاً هو لا يسقط، فثبوته كان معلوماً أولاً والآن أشك في سقوطه فيجري استصحاب بقاءه، فنحن نريد استصحاب بقاءه بعد الاتيان بالأقل، فإذا كان الاستصحاب يجري ويثبت بقاء الوجوب لأننا نشك في سقوطه والشك بالسقوط هو ثابت بالوجدان وليس قابلاً للإنكار فهنا يجري استصحاب بقاء فالعقل يحكم بأنه يلزم الاتيان بالجزء العاشر ولو من خلال إعادة الصلاة من جديد، وهذا ليس فيه محذور أصل مثبت ولا غير ذلك، وهذا لم يعالجه السيد الشهيد(قده)، فإذاً ما ذكره لا ينفع في حل هذا الاشكال.

وأجاب السيد الخوئي(قده)[3] :- بأنَّ استصحاب بقاء الوجوب عند الاتيان بالأقل يوجد أصل حاكم عليه وهو أصالة عدم تعلق الوجوب بالأكثر، فإذا كان الحاكم موجوداً فلا يجري المحكوم، كما لو فرض أنه خرج من الانسان بلل، كما لو توضأ ثم خرج منه بول جزماً وبعد قليل خرجت منه قطرة فشك أنها مني أو ليس بمني، ففي مثل هذه الحالة سوف يشك في حدوث الحدث الأكبر فيستصحب عدم تحقق الحدث الأكبر ويضمّه إلى الجزم بوجود الحدث الأصغر، وسوف تصير النتيجة هي أنه بعد أن كان الحدث الأصغر موجوداً والحدث الأكبر منفي بالاستصحاب فاستصحاب بقاء الحدث بعد الوضوء لا يجري لوجود الأصل الحاكم وهو أصالة عدم تحقق الحدث الأكبر، فهذا الأصل يكون حاكماً على استصحاب بقاء الحدث، وهذا يقبل به الكل، فلو قبلته هناك فاقبله في مسألتنا هذه وهي ما إذا شككنا أنَّ الوجوب متعلّق بالتسعة أو بالعشرة، فإذا أتينا بالتسعة فاستصحاب بقاء الوجوب لا يجري لوجود أصل حاكم عليه وهو أصالة عدم تعلّق الوجوب بالجزء العاشر - أو بالعشرة - فيكون حاكماً على استصحاب بقاء الاشتغال كما هو الحال في مثال خروج القطرتين، فإنه لو خرجت قطرة بول ثم خرجت قطرة ثانية وشككنا في كونها منيّاً فنقول بالاكتفاء بالوضوء، وإذا توضأنا فلا يشكل علينا مشكل بأنه يجري استصحاب بقاء الحدث - لأن يوجد احتمال كون القطرة الثانية هي مني فالحدث الأكبر يكون باقياً - وإنما نقول لا يجري استصحاب بقاء الحدث لوجود الأصل الحاكم وهو أصالة عدم خروج قطرة المني، ونفس الكلام يأتي في موردنا، فإنه بعد أن أتيت بالتسعة وأشك في سقوط الأمر فهنا يوجد أصل حاكم وهو أصالة عدم تعلّق الوجوب بالجزء العاشر، فلا يجري استصحاب بقاء الوجوب المتعلّق بالتسعة لوجود الأصل الحاكم كما في مثال القطرتين.

وهنا السيد الخوئي استعان بالتشبيه حيث قال إنه في قطرة المني المشكوكة بلا إشكال لا نحكم بوجوب الغسل ولا نقل باستصحاب بقاء الحدث وإنما نجري استصحاب عدم خروج قطرة المني ويكون حاكماً على استصحاب بقاء الحدث، فهو استعان بهذا المثال وجعله دليلاً على أنه كما أنَّ استصحاب عدم خروج قطرة المني حاكماً على استصحاب بقاء الحدث ففي موردنا أيضاً نقول إنَّ أصالة عدم تعلّق الوجوب بالجزء العاشر يكون حاكماً على أصالة بقاء الاشتغال.

[1] بحوث في علم الأصول، الهاشمي الشاهرودي، ج5، ص361.
[2] دروس في علم الأصول ( الحلقة الثالثة )، السيد الشهيد، ج2، ص192.
[3] دراسات أصولية، السيد الخوئي، ج3، ص433.