41/11/08
الموضوع: - التنبيه الثامن ( الانحلال الحقيقي والانحلال الحكمي ) - الشبهة المحصورة - مبحث أصالة الاشتغال (الشّك في المكلف به)- مبحث الأصول العملية.
ذكرنا أن الشك تارة يكون في التكليف وتارة يكون في المكلف به، أما الشك في التكليف فذلك مثل الشك في كون الترياق حرام أو ليس بحرام فهنا يكون مجرى للبراءة، وأما الشك في المكلف به فهو على قسمين فتارة يفترض أنَّ الشك في المكلف به يكون من باب الدوران بين المتباينين كصلاة الظهر أو الجمعة، فلا ندري أنَّ المكلف به ظهر يوم الجمعة هو صلاة الظهر أو هو صلاة الجمعة، ومرة يكون الشك في المكلف به بين الأقل والأكثر، فإن كان الدوران بين المتباينين فالمعروف هو الاحتياط، أما إذا كان الدوران في الأقل والأكثر فهنا تارة يكون الأقل والأكثر استقلاليين وأخرى يكونا ارتباطيين، ومثال الاستقلاليين ما لو فاتتني صلوات حتماً كصلاة الصبح ولكن أشك هل فاتني عشر صلوات صبح أو تسع صلوات فهذا دوران بين أقل وأكثر استقلاليين، وإنما عبر عنه بالاستقلاليين لأنَّ امتثال الأقل لا يتوقف على الاتيان بالأكثر، يعني حتى لو كان الواجب عشرة أنا لا أريد المجيء بعشرة وإنما أتيتي بتسعة أو مثانية أو واحدة فهنا يصير الامتثال بمقدار واحدة واشتغال بمقدار تسعة وإذا أتيتي بصلاة ثانية فهنا سوف يصير امتثال بمقدار اثنين واشتغال بمقدار ثمانية.... وهكذا، وهذا هو ضابط الاستقلاليين لأنها أوامر وتكاليف متعددة مستقلة فإن لكل صلاة تكليف مستقل، وهذا مجرى للبراءة بلا إشكال، يعني أنا إذا لم أعلم أنَّ الذي في ذمتي عشر صلوات أو تسع صلوات فهنا تكفي التسعة، وهكذا في باب الخمس فلو شك في مقدار الخمس وأنه عشرة آلاف أو أحد عشر ألفاً فهنا تكفي العشرة آلاف، لأنهما من الأقل والأكثر الاستقلاليين فتجري البراءة عن الزائد أما الأقل فهو قدر متيقن التكليف به فيكفي الاتيان بالقدر المتيقن.
ولأجل وضوح المطلب في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين لا يوجد بحث مخصّص له في الكتب الأصولية.
وتارة يكون الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين: - مثل الصلاة لا نعلم أن أجزائها تسعة او عشرة، فهنا وقع الخلاف بين الأصوليين وأنه هل نجري البراءة عن الزائد - أي الأكثر - وأخذ بالمتيقن أو أنه يلزم الاشتغال؟
إنَّ الكلام وقع هنا دونه في الاستقلاليين، والضابط بين الاستقلاليين وبين الارتباطيين أنه في الاستقلاليين توجد تكاليف متعددة بعدد الأفراد، أما في الارتباطيين التكليف واحد جزماً ولكن هذا الواحد هو متعلق بالتسعة أو هو متعلق بالعشرة، وهذا من الواضحات، وكلامنا الآن في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين حيث وقع الكلام في أنَّ الزائد هو مجرى للبراءة أو الاشتغال، وهذا كله واضح.
وما هي مصاديق الأقل والأكثر الارتباطيين؟والجواب: - إنها تحصل في ثلاثة موارد: -
الأول: - الشك في الجزئية، كما لو شكنا في أنَّ الصلاة هي تعسة أجزاء أو عشرة، فهذا شك في الأقل والأكثر الارتباطيين وهو شك في جزئية الجزء المشكوك.
الثاني: - الشك في الشرطية، مثل ( أعتق رقبة ) فهل اللازمة عتق رقبة مطلقاً أو بشرط أن تكون مؤمنة.
الثالث: - الدوران بين التعيين والتخيير، فنحن لا نعلم أن الواجب في باب الكفارة هو وواحدة بنحو التخيير أو بنحو الترتيب الأولى فإن عجزت فالثانية فإن عجزت فالثانية.
وقد يقول قائل: - يوجد مصداق رابع وهو الشك في المانعية، كمانعية الكفر من صحة العتق.
ولكن نقول: - إنَّ الشك في المانعية مرجعه إلى الشك في الشرطية ولكن تارة تكون الشرطية هي شرطية وجود شيء وتارة تكون شرطية عدم شيء، فشرطية عدم شيء يعبر عنه بالشك في المانعية وإلا فهو شك في الشرطية، فما ذكرته لا بأس به ولكن مردود بما ذكرنا.
أما المصداق الأول: - فتوجد ثلاثة آراء معروفة: -
الرأي الأول:- ما بنى عليه الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل[1] من جريان البراءة العقلية[2] والشرعية[3] .
الرأي الثاني: - ما اختاره الشيخ الخراساني(قده) في حاشيته على الكفاية[4] ، وهو أنَّ كلتا البراءتين لا تجريان.
الرأي الثالث: - التفصيل بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية، فالبراءة العقلية لا تجري عند الشك في الجزئية بخلاف الشرعية فغنها تجري، وقد بنى على ذلك الآخوند الخراساني(قده) في كفايته، وكذلك الشيخ النائيني(قده).
هذه الأقوال الرئيسية في المسألة، والمعروف بين المتأخرين هو الرأي الأول وهو جريان كلتا البراءتين العقلية والنقلية.
ودليل القائلين بالبراءة واضح حيث نقول: - إنَّ الأقل هو قدر متيقن والزائد مشكوك فنجري عنه البراءة.
إنما الذي يحتاج إلى اثبات هو أنَّه كيف أنَّ العقل يقتضي الحكم بالاشتغال، فما هو دليل من قال بالاشتغال عقلاً؟والجواب: - قد استدل عليه بعدة أدلة: -
الدليل الأول: - ما ذكره صاحب الكفاية(قده)، وحاصله أن يقال: إنَّ هناك وجوبا نفسياً واحداً نشك في تعلقه بمجموع الأجزاء التسعة أو بمجموع الأجزاء العشرة، فنجزم بوجوب نفسي واحد للصلاة ونك في تعلقه بالصلاة ذات التسعة أجزاء او بالصلاة ذات العرشة أجزاء، وهذا سوف يصير دوراناً بين المتباينين، هكذا قل.
ولا تقل:- نحن نشك في تعلقه بالتسعة أو بالجزء العاشر، فإنَّ هذا غير صحيح، فإنَّ وجوب الجزء العاشر ليس عدلاً لوجوب التسعة، وإنما العدل لوجوب التسعة هو وجوب العشرة وليس وجوب الجزء العاشر، فأنا أشك هل الوجوب النفسي هل هو متعلق بالتسعة أو أنه متعلق بمجموع العشرة، هكذا قل، ولا تقل نحن نعلم بتعلق الوجوب إما بالتسعة أو بالجزء العاشر فإنَّ تعلق الوجوب بالجزء العاشر ليس عدلاً لتعلقه بالتسعة، وإنما العدل لتعلقه بالتسعة هو تعلقه بالعشرة، فهو وجوب واحد ولا ندري هل تعلق بالتسعة أو تعلق بالعشرة، فالاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، فلابد من الاتيان بالعشرة ولا يكفي الاتيان بالتسعة.
هذا هو الدليل الأول على أنه في موارد الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين يجب عقلاً الاحتياط، إذ ذلك الوجوب النفسي الشرعي الواحد مرددٌ تعلّقه بين تعلقه بالتسعة أو تعلقه بالعشرة، وأصالة البراءة من تعلقه بالتسعة معارضة بأصالة البراءة بتعلقه بالعشرة، فالبراءتان متعارضتان فيلزم الاشتغال والاحتياط، وما ذاك إلا بالإتيان بالعشرة.
هذا بيانٌ لإثبات وجوب الاحتياط والاشتغال عقلاً تمسّك به الأعلام فكيف الجواب عنه؟