41/06/16
الموضوع: - التنبيه الرابع ( العلم الإجمالي في التدريجيات ) - الشبهة غير المحصورة - مبحث أصالة الاشتغال ( الشّك في المكلف به )- مبحث الأصول العملية.
ونحن نجيب ونقول: -أولاً: - إنَّ ما ذكراه تطويل لا داعي إليه، فإنه مع وجود الدليل ذي المسافة القصيرة لا معنى لسلوك الدليل ذي المسافة الطويلة، والدليل ذي المسافة القصيرة هو ما بيّناه، وهو أنَّ دليل الأصل - وهو ( كلّ شيء لك حلال ) - نعلم بأنه لا يشمل الأصلين معاً، فإنَّ الأصل الآن والأصل في وقته نعلم بأنَّ واحداً منهما كاذب جزماً فلا يمكن أن يشملهما دليل الأصل معاً، فهو لا يجري في كليهما للعلم بكذب أحدهما، كما لا يجري في واحدٍ منهما لأنه ترجيح من دون مرجح، فيتعين أن لا يجري فيهما فيثبت التنجيز، ولا نحتاج إلى الذهاب إلى قضية الملاك.
ثانياً:- إنهما ذكرا ( أنه إذا كان الملاك لذاك المتأخر فعلياً من الآن فيدور الأمر بين تفويت احد ملاكين فعليين من الآن وهو لا يجوز )، وهذا تام ولا مشكلة فيه، ثم قالا ( وإذا كان ذلك الملاك المتأخر فعلياً في وقته وليس من الآن فأيضاً يقبح تفويته من خلال اجراء الأصل عنه )، ونحن نعلّق ونقول:- إنه مادام ذلك الملاك فعلياً في وقته فقبح تعجيز النفس عن امتثاله هو أوّل الكلام، والمنبه لعدم القبح هو أنه لو كان عند المكلف ماءً بمقدارٍ يكفي للوضوء فيجوز إراقته قبل الوقت، وهذا متفق عليه، وهذا يلزم منه تفويت الملاك الفعلي في وقته ولكن تفويته من الآن الذي هو فيه ليس فعلياً - وإنما هو فعلي في وقته -، فهنا يجوز، وهكذا لو أراد المكلف أن ينام قبل دخول وقت صلاة الصبح وهو يعلم أنه سوف يستيقظ بعد طلوع الشمس فهنا يجوز له ذلك والحال أنه يلزم تفويت الملاك الذي هو فعلي في وقته، فلو كان تفويت الملاك الفعلي في وقته قبيحاً لزم عدم جواز إراقة ماء الوضوء وعدم جواز هذا النوم، فإذاً جواز الإراقة للماء وجواز النوم إن دل على شيء فإنما يدل على أنَّ الملاك الذي هو ليس فعلياً من الآن وإنما هو فعلي في وقته تفويته من الآن أمر جائز وليس بقبيح وإلا يأتي ما ذكر.
الموقف بناءً على عدم المنجّزية: -نحن ذهبنا إلى منجّزية العلم الإجمالي في التدرجيات، لأننا قلنا إن العقل يحكم من الآن بلزوم الامتثال هذا في وقته وذاك في وقته، وعليه فسوف يثبت التنجيز ولا يجري الأصلان، لأنَّ دليل الأصل لا يمكن أن يشمل الطرفين للعلم بكذب أحدهما، ولكن إذا بنينا على أنَّ العلم الإجمالي في التدريجيات ليس منجّزاً نسأل ونقول:- إنه في هذه الحالة نرجع إلى أي أصل أو دليل؟، يعني المرأة التي تعلم الآن أنَّ إحدى الثلاثتين هي حيض ففي الثلاثة الأولى ترجع إلى ماذا؟، فمرة الحكم تكليفي ومرة الحكم وضعي، كما لو كنّا نعلم بأنَّ أحد البيعين حرام أو باطل فنرجع إلى ماذا؟
الجواب: - أما بالنسبة إلى المرأة الخائض، ففي الثلاثة الأولى نرجع إلى أصالة البراءة، لأنَّ المرأة تشك هل هي حائض الآن ويحرم عليها دخول المسجد أو لا فالأصل هو البراءة، وهكذا الحال حينما تصل إلى الثلاثة الثانية فإنها تشك أنها حيض أو لا فتجري أصل البراءة، فالموقف يكون هو اجراء أصل البراءة.
إن قلت: - إننا إذا رجعنا إلى كلا الأصلين فهذه مخالفة قطعية وهي لا تجوز؟
قلت: - نحن فرضنا أنَّ العلم الإجمالي في التدريجيات ليس بمنجّز فلا تحصل مخالفة قطعية وإنما هذا عودة إلى المنجّزية، ولكن لو فرضنا أنَّ العلم الإجمالي في التدريجيات ليس بمجّز فلا يعود مانع من الرجوع إلى الأصل هذا الأصل في الثلاثة الأولى وذاك الأصل في الثلاثة الثانية، أو نرجع إلى الاستصحاب، يعني أنه في الثلاثة الأولى تستصحب المرأة عدم الحيض، لأنها قبل الثلاثة الأولى لم تكن حائضاً فتستصحب عدم الحيضية في الثلاثة الأولى، ولكن حينما تصل إلى الثلاثة الثانية لا يمكنها استصحاب عدم الحيضية لا لأجل المعارضة وإنما لأجل العلم بأنَّ أحد الدمين هو حيض، فإن كان الأول حيضاً - أي الحالة السابقة - فيجري استصحاب الحيضية لا استصحاب عدم الحيضية، وإن فرض أنَّ الأول لم يكن حيضاً فالثاني هو حيض قطعاً، فكيف يجري الاستصحاب؟!! فالاستصحاب يختص بالأوّل دون الثاني.
وإذا كانت معاملة ربوية وأنا أعلم أنه إما المعاملة الأولى هي ربوية محرمة أو المعاملة الثانية هي ربوية محرمة، ففي مثل هذه الحالة نرجع إلى أصل البراءة.
وهل يجوز التمسك بالدليل الاجتهادي: - أعني مثل ( أحلَّ الله البيع ) فإنه أحد البيعين اللذين هما تدرجيين فأتمسك للبيع الأول بأحل الله البيع وأتمسك للبيع الثاني بأحل الله البيع؟، أو نتمسك بأصالة الصحة فإننا بالتالي نشك في صحة المعاملة الأولى او صحة المعاملة الثانية؟
والجواب: -أما بالنسبة إلى التمسك بالدليل الاجتهادي: - فلا يجوز، لأنَّ من التمسك بالعام أو المطلق في الشبهة المصداقية، إذ أنَّ ( أحلَّ الله البيع ) خرج منه المعاملة الربوية جزماً، ولكن نشك أن هذه المعاملة ربوية أو ليست ربوية فيكون التمسك هنا في العام أو المطلق مع الشك في المصداق، وواضحٌ أنَّ هذا يكون من التمسك بالعام أو المطلق في الشبهة المصداقية وهو لا يجوز.
وأما بالنسبة إلى التمسّك بأصالة الصحة: - فإنه عندنا في باب العقود كل عقد مشكوك يجري بلحاظه أصل الصحة، ومدرك أصل الصحة إما سيرة العقلاء أو المتشرعة أو الرواية التي تقول ( كل ما مضى فأمضه كما هو )، ولكن نقول:- إنَّ القدر المتيقن من أصالة الصحة هو ما إذا فرض أنَّ الشيء قد مضى وانتهى وشككنا بعد ذلك في صحته فآنذاك ينطبق عليه عنوان ( كل شيءٍ قد مضى ) أو يكون معقداً للسيرة العقلائية أو المتشرعية، وأما إذا كان بَعدُ لم يَمضِ ولم نأت به الآن فهذا لا نجزم بشمول أصالة الصحة له، والمفروض في مقامنا أنَّ المعاملة الأولى قد انتهت أما المعاملة الثانية فهي ليست حاصلة بَعدُ وإنما أريد أن أقدم عليها فإن كانت حلالاً وممضيَّة فسأقدم عليها وإلا فلا، فهي بَعدُ لم تقع، وعلى هذا الأساس لا معنى لتطبيق أصل الصحة، لأنَّ المدرك اللفظي يقول ( كل شيء مضى )، وإذا كان المدرك عقلائياً من ارتكازٍ أو سيرةٍ متشرعيةٍ فالقدر المتيقن هو ما إذا انتهى العمل وشك المكلف في صحته وبطلانه.
إن قلت: - فليجرِ المكلف المعاملة ثم بعد ذلك يجري الأصل؟
قلت: - إنه لا يصح ذلك، لأنَّ الشك موجود من البداية، وأصالة الصحة إنما تجري فيما إذا فرض أنَّ الشك تولّد بعد العمل، وإلا فكل عملٍ مشكوك يأتي به المكلف ثم يجري أصالة الصحة، وكذلك كل عقد تشك في أنه صحيح أو ليس بصحيح فاجرِه أولاً ثم اجرِ أصالة الصحة بعد ذلك، وهذا لا معنى له، وإنما إذا أجريته باعتقاد أنه كامل ثم بعد ذلك وقع الشك فهنا دل الدليل على أنه أمضه كما هو أو أنَّ السيرة جرت على ذلك.