41/05/22
الموضوع: - التنبيه الخامس ( الشبهة غير المحصورة ) - مبحث أصالة الاشتغال ( الشّك في المكلف به )- مبحث الأصول العملية.
الاشكال الثالث: - إن يقال: لو كان هناك اطمئنان وهو حجة فسوف ارتكب الطرف الأول، ولازم هذا أنَّ العلم الإجمالي سوف يزول عن الباقي، فلا يمكن أن نجزم بأنَّ النجس موجود في الباقي، لاحتمال أنه كان ثباتاً في الطرف الأول الذي تناولته، فإذا لم يكن هناك علم اجمالي فسوف يجوز ارتكاب بقية الأطراف لعدم وجود العلم الإجمالي، فالطرف الأول جاز ارتكابه لأجل الاطمئنان، والبقية يجوز ارتكابها لأجل زوال العلم الإجمالي.
والجواب: - صحيح أنَّ العلم الإجمالي قد زال في بقية الأطراف ولكن الاطمئنان لم يزُل، وإذا لم يَزُل الاطمئنان، فحيث إنه حجة كالعلم، فإذاً يلزم ترك الباقي لأجل الاطمئنان.
الوجه الثاني لجواز ارتكاب الشبهة غير المحصورة: - وهو أن يقال: إنَّ العلم الإجمالي إنما يكون منجّزاً إذا تعارضت الأصول في أطرافه، وحيث إنه في الشبهة غير المحصورة لا تتعارض الأصول باعتبار كثرة الأطراف، فالمخالفة العملية القطعية لا تكون ممكنة، وإلا إذا كانت ممكنة لم تكن الشبهة غير محصورة، فتجري الأصول في كل الأطراف ولا يلزم من ذلك محذور، لأنك بالتالي لا تتمكن أن ترتكب جميع الأطراف وإلا صارت محصورة، فإذا لم يمكن ارتكاب جميع الأطراف فلا يعود مانع من جريان الأصل - أصل الطهارة أو البراءة - في جميع الأطراف، ومعه لا يكون العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة منجّزاً، لأنَّ سبب تنجيز العلم الإجمالي تعارض الأصول في الأطراف، وحيث لم تتعارض في أطراف الشبهة غير المحصورة، لأنَّ الكثرة الكاثرة للأطراف تمنع من إمكان ارتكاب جميع الأطراف، فبالتالي جريان الأصل في جميع الأطراف لا يلزم منه المخالفة القطعية، فلا مانع من جريان الأصول في الأطراف، وبالتالي لا يكون العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة منجّزاً.
ومن خلال هذا اتضح الفارق بين الشبهة المحصورة والشبهة غير المحصورة، فإنَّ الشبهة المحصورة يكون العلم الإجمالي فيها منجّزاً حيث إنَّ الأطراف قليلة فيمكن ارتكابها جميعاً، فلو جرت الأصول في جميع الأطراف يلزم المخالفة القطعية، فلا تجري في البعض لأنَّه من دون مرجح، ولا تجري في جميع الأطراف للعلم الاجمالي بأنَّ البعض محّرم، فتتعارض الأصول العملية في الأطراف، فيكون العلم الإجمالي منجّزاً، وهذا بخلافه في الشبهة غير المحصورة، فإنه لو جرت الأصول في جميع الأطراف فحيث لا يمكن ارتكابها جميعاً فلا يكون جريان الأصول في جميع الأطراف موجباً لتجويز المخالفة القطعية، فتجري الأصول في جميع الأطراف، وبذلك لا يكون العلم الإجمالي منجّزاً، وهو شيء لا بأس به.هذا وقد ذكر السيد الشهيد(قده)[1] نفس هذا التوجيه لجواز ارتكاب الشبهة غير المحصورة ولكن بصياغة أخرى حيث قال:- إنَّ الأصول لِمَ لا تجري في أطراف الشبهة المحصورة والحال أنَّ دليل الأصل - ( كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام ) و ( كل شيء لك طاهر حتى تعلم أن قذر ) - بإطلاقه كل طرفٍ طرف من أطراف الشبهة المحصورة ؟ إنها لا تجري للانصراف، لأنها لو جرت في جميع الأطراف فمعنى ذلك أنَّ الغرض الترخيصي أهم من الغرض الالزامي، وعادةً لا يكون الغرض الترخيصي هو الأهم، وإنما يكون الغرض الالزامي هو الأهم عادةً، فلو جرى الأصل في كلا الطرفين في الشبهة المحصورة فلازمه أهمية الغرض الترخيصي بالنسبة إلى الغرض الالزامي، وهذا شيء غير معهود في الحياة العقلائية، فعدم المعهودية تصير سبباً لانصراف دليل الأصل عن أطراف العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة، لأنَّ لازم جريان الأصل في كلا الطرفين أن يكون الغرض الترخيصي أهم من الغرض الإلزامي وهذا شيء غير معهود في الحياة العقلائية، فينصرف اطلاق دليل الأصل عن الشبة المحصورة.
وإذا ذهبنا إلى الشبهة غير المحصورة، فحيث إنَّ الأطراف المباحة كثيرة بينما الإلزامي طرف واحد، فلأجل الكثرة الكاثرة للغرض الترخيصي يمكن أن يكون هو الأهم، والأهمية تنشأ من تعدد مصاديق الغرض الترخيصي، فيمكن أن يكون الغرض الترخيصي لأجل تعدد أطرافه هو الأهم من الغرض الالزامي - فإنَّ الغرض الالزامي واحد بينما الأغراض الترخيصية تسعمائة وتسعة وتسعين مثلاً - فيمكن للمولى أن يرخّص في الجميع بإجراء الأصل لأجل ما ذكرنا، وسوف تصير النتيجة هي أنَّ اطلاق دليل الأصل يشمل جميع أطراف الشبهة غير المحصورة، لأنَّ الكثرة الكاثرة تجعل الغرض الترخيصي هو الأهم.ونحن نذكر شيئاً ثالثاً وهو أن يقال:- إنَّ الأصل لا يجري في جميع الأطراف في الشبهة المحصورة لا لأجل أنه يلزم مخالفة عملية كما ذكره المشهور، ولا لأجل أنه يلزم أهمية الغرض الترخيصي بالقياس إلى الغرض الالزامي، وإنما يوجد مانع ثالث، وهو محذور المناقضة، فإني إذا كنت أعلم بأنَّ واحداً من هذين الطرفين محرّماً فلا معنى لأن ترخّصني في الجميع فإنه توجد مناقضة، فالمناقضة بما هي مناقضة تكون مانعاً من الموانع ، ولا تحصر المانع بالمخالفة العملية أو لزوم أهمية الغرض الترخيصي بالقياس إلى الغرض الالزامي، وإنما هذا محذور ثالث لعدم جواز أجزاء الأصل في جميع أطراف الشبهة المحصورة، ومن الواضح أنَّ محذور المناقضة كما هو موجود في الشبهة المحصورة موجود أيضاً في الشبهة غير المحصورة، فلو أخذنا بهذا يلزم عدم الفرق بين الشبهة المحصورة وغير المحصورة، فعلى هذا الأساس ما ذكر في الوجه الثاني يبتني على غضّ النظر عن محذور المناقضة، والحال أنه يمكن أن يقال إنَّ محذور المناقضة موجود، ولكن في نفس الوقت المحذورين الأول الثاني أيضاً موجودين، فإنه لا محذور من اجتماع المحاذير الثلاثة، ومادامت المحاذير الثلاثة مجتمعة، فالمحذور الثالث حيث إنه يجري في الشبهة المحصورة وغير المحصورة فعليه سوف يعود الاشكال على حاله، فكيف الجواب؟