41/05/10
الموضوع: - التنبيه الرابع ( خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ) - مبحث أصالة الاشتغال (الشّك في المكلف به)- مبحث الأصول العملية.
أما حالة خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء: -فالمعروف بين متأخري الأصوليين عدم منجّزية العلم الإجمالي إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محل الابتلاء، باعتبار أنَّ الطرف الخارج عن محل الابتلاء لا يتوجه التكليف إليه، لأنه مستهجن لفرض خروجه عن محل الابتلاء، فيبقى التكليف في الطرف الثاني الداخل في محل الابتلاء مشكوكاً، فيجري بلحاظه أصل البراءة، وقد مثّل بعضهم كما ينقل السيد الخميني(قده)[1] عن أستاذه الشيخ عبد الكريم الحائري عن أستاذه السيد محمد الفشاركي للخارج عن محل الابتلاء بِعَضِّ رأس المنارة أو فوق الشجرة، فيقول هكذا ( أنا أعلم بأني منهي عن أحد أمرين إما هذا الأمر الذي هو محل الابتلاء أو منهي عن عضّ رأس المنارة أو رأس الشجرة اللذان هما خارجان عن محل الابتلاء )، فصحيحٌ أنَّ هذا الطرف خارج عن محل الابتلاء، فلو كنت علم بوجوب أحدهما أو بحرمة أحدهما فبما أنَّ أحد الأطراف خارج عن محل الابتلاء فحينئذٍ لا تكليف بلحاظه، فيبقى الطرف الذي هو في محل الابتلاء مشكوك التكليف، فنجري أصل البراءة.
فإذاً المعروف بين الأصوليين أن أحد طرفي الإجمالي إذا كان خارجاً عن محل الابتلاء، فهذا العلم الإجمالي لا يكون منجزاً، لأنَّ الطرف الخارج عن محل الابتلاء لا تكليف بلحاظه، فإنه خارج عن محل الابتلاء، ولا يصح التكليف به إلا على تقدير الابتلاء، يعني أقول له ( إذا صار ذلك الطرف محلاً لابتلائك فلا تصنع كذا )، فمثلاً إذا صرت رئيس جمهورية فلا تسرق أموال الناس.وقال الشيخ العراقي(قده):- إنَّه في بعض الأحيان حتى مع التقييد بمحلّ الابتلاء أيضاً لا يصلح التكليف، وقد مثل بثمال وقال ( كأن يقال لعاميٍّ بليد إذا صرت مجتهداً يجب عليك التسهيل في الفتى أو لدهقانٍ فقير إذا صرت سلطاناً فلا تظلم رعيتك )[2] .
والخلاصة: - إنه إذا كان أحد الطرفين خارجاً عن محل ابتلاء فحيث إنَّ التكليف به مستهجن إلا على تقدير التقييد بالابتلاء والمفروض الآن أنه لا ابتلاء فلا علم بالتكليف، وحينئذٍ هذا العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً، ويجري أصل البراءة بلحاظ الطرف المبتلى به، وهذا هو المعروف بين الأعلام.
ونحن حيث ذهبنا في حالة عدم القدرة إلى بقاء العلم الإجمالي على المنجّزية، فبالأولى يبقى على المنجزية إذا كان الطرف خارجاً عن محل الابتلاء، والوجه في ذلك:- هو أنَّ عدم ثبوت التكليف بلحاظ الطرف الخارج عن محل الابتلاء إما للاستهجان كما ذكر الأعلام أو من باب تحصيل الحاصل، فإن كان من جهة محذور الاستهجان فهو كما ذكرنا يتم فيما إذا كان الخطاب شخصياً - يعني هذا الشخص يتوجه إليه خطاب بخصوصه - وأما إذا كان الخطاب يتوجه إلى طبيعي المكلف من دون نظرٍ إلى الأفراد وهكذا إلى طبيعي النجاسة من دون نظر إلى أفرادها باعتبار أنا نبني على أنَّ الاطلاق هو عبارة عن رفض القيود لا الجمع بينها فحينئذٍ لا محذور في توجه التكليف إلى طبيعي المكلف، وكل ما ذكره الأعلام مبتنٍ على أنَّ التكليف شخصي لا للطبيعي أو هو مبني على أنَّ الاطلاق عبارة الجمع بين القيود، وكلا المطلبين لا يبني المشهور عليهما، فإذاً المناسب بقاء العلم الإجمالي ثابتاً في عهدة المكلف.
إن قلت: - إنَّ هذه القضية التي ذكرتها في ردّهم واضحة، فهل هم غافلون عنها؟
قلت: - نعم نحن نجزم بضرس قاطع بكونهم كانوا غافلين عنها، إذ لو لم كانوا ملتفتين إليها لأشاروا إليها، وهذا معناه أنهم لم يلتفتوا إليها.
فإذاً لا يلزم محذور الاستهجان.أما بالنسبة إلى محذور تحصل الحاصل: - فهو لا يلزم أيضاً، لأنَّ المقصود من النهي هو الاستمرار على الترك لا تحقيق الترك الحاصل الآن في هذه الحظة، وإنما حينما أقول لك ( لا تشرب النجس ) فالمطلوب ليس هو الانتهاء الآن، لأنك الآن لا تشرب النجس حتى يلزم محذور تحصيل ، وإنما المقصود هو عليك أن تستمر على الترك في المستقبل، ومن الواضح أنَّ الاستمرار على الترك في المستقبل ليس شيئاً حاصلاً الآن حتى يلزم محذور تحصيل الحاصل، فعلى هذا الأساس لا يلزم محذور تحصيل الحاصل في المقام.نعم ربما تقول: - صحيح أنه لا يلزم محذور تحصيل الحاصل، ولكن مادام الشيء خارجاً عن محل الابتلاء فالترك في المستقبل يكون حاصلاً أيضاً ولو بسبب الخروج عن محل، فلا داعي إلى توجيه الخطاب بتركه.
ولكن قد أجبنا عنه فيما سبق وقلنا: - إنَّ هذا عودة إلى محذور الاستهجان، وقد قلنا إنَّ الاستهجان يلزم فيما إذا كان الخطاب شخصياً، دون ما إذا كان الخطاب طبيعياً وللنوع.
وعلى هذا الأساس يتضح أنه من ناحية محذور الاستهجان أو من ناحية محذور طلب تحصيل الحاصل أو غير ذلك لا يلزم.نعم يبقى المحذور من جهة أخرى: - وهو أن يقال: إنَّ منجّزية العلم الإجمالي فرع تعارض الأصول، والأصول في المقام ليست متعارضة، فإنَّ الأصل لا يجري فيما هو خارج عن محل الابتلاء، باعتبار أنَّ الأصل وليد التزاحم بين ملاكين ملاك الاباحة وملاك الحرمة ملاك الطهارة وملاك النجاسة .... وهكذا، وحيث إنَّ الطرف الذي يحتمل أنه نجس أو حرام خارج عن محل الابتلاء فإذاً ملاك النجاسة أو الحرمة يكون الاجتناب عنه متحققاً بشكلٍ قهري من دون حاجة إلى أن يحفظ المولى من الوقوع في ملاك النجاسة أو الحرمة، وإنما المكلف لا يقع فيه قهراً، فالأمر يدور بين ملاك الاباحة، أما ملاك الحرمة أو النجاسة فليس بموجود، فأصل الطهارة أو أصل الحلية لا معنى لجريانه في الطرف الخارج عن محل الابتلاء، لأجل أنَّ ملاك الحرمة أو النجاسة أو غيرهما هو منترك بنفس عدم الابتلاء به، فلا حاجة إلى التحفظ من ارتكابه، فيجري أصل الحلية أو الطهارة في الطرف المبتلى به من دون معارضة، وحينئذٍ لا يكون العلم الإجمالي منجّزاً.