الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

41/04/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - مبحث أصالة الاشتغال ( الشّك في المكلف به )- مبحث الأصول العملية.

ارتباط الثمرة بمسألة وحدة تعدد الرتبة: -اتفق العلمان العراقي والنائيني(قده) على أنَّ المعارضة تصير بين الأصول ذوات الرتبة الواحدة ولا يشترك في المعارضة الأصل الذي يكون متأخراً من حيث الرتبة، وهذه قضية ذكرها الشيخ الأنصاري(قده) في الرسائل، وقد رتبوا على هذه القضية أبحاثاً في مسألة ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة، فربطوا الثمرة في محل كلامنا بمسألة وحدة الرتبة، فيدخل في المعارضة الأصول ذوات الرتبة الواحدة ثم بعد ذلك نرجع إلى أصل الطهارة في الاناء الأول - الذي كان يجري فيه استصحاب وقد سقط بالمعارضة - لأنَّ رتبته متأخرة، وقد قلنا إنَّ أصول الشيخ الأنصاري(قده) في هذه المسألة مبتنٍ على ذلك أيضاً.

والذي نريد أن نقوله:- هو أنَّ اشتراط وحدة الرتبة في تحقق المعارضة شيء يمكن رفضه، والوجه في ذلك:- هو أنَّ المعارضة تكون بين الأدلة - يعني دليل أصل الطهارة هنا ودليل أصل الطهارة هناك - فالمهم ملاحظة الأدلة، أما مسألة الرتبة فلا معنى لملاحظتها، بل هم قالوا بأنَّ أصل الطهارة في الاناء الأول يعارض استصحاب الطهارة في الاناء الثاني، فجعلوا المعارضة بين الأصلين وغضوا النظر عن الدليل، ومن الواضح أنَّ الأصل بقطع النظر عن الدليل ليس شيئاً يصلح أن يكون معارضاً، فإن أصل الطهارة بغض النظر عن الدليل لا وجود له حتى يعارض أصل الطهارة هناك، فالمهم هو ملاحظة الأدلة، وإذا لاحظناها وجدناها جميعاً ترتبط بقاعدة الطهارة، وحينئذٍ سوف يتعارض أصل الطهارة في هذين الطرفين - ومقصودنا من أصل الطهارة هو دليل قاعدة الطهارة - وسقوط الأصول تماماً، لا أن نقول إنَّ هذا الأصلان رتبتهما واحدة فيتعارضان ويتساقطان ثم نرجع إلى أصل الطهارة في الطرف الآخر، فإنَّ هذا الكلام ليس بصحيح، لأنَّ هذا معناه أنَّ المعارضة ليست بين الأدلة، ونحن إذا افترضنا المعارضة بين الأدلة فحينئذٍ الأدلة هي متعارضة، فيلزم التساقط في الجميع من دون ملاحظة وحدة الرتبة.

إن قلت: - لماذا لا نقول إنَّ دليل الاستصحاب غير داخل في المعارضة، فإنه دليل آخر وهو استصحاب وليس هو قاعدة الطهارة، فلماذا تقول بدخوله في المعارضة؟

نقول: - إنَّ دليل الاستصحاب هو بالتالي يريد أن يثبت الطهارة، فتحصل معارضة بين دليل استصحاب الطهارة وبين دليل قاعدة الطهارة وتتساقط الأصول الثلاثة في آنٍ واحد.

ولا تقل إنَّ الاستصحاب مادام موجوداً فهو حاكم على أصل الطهارة في طرفه، فإنَّ هذا لا معنى له، فإنَّ الجميع يؤدي مضموناً واحداً هو الطهارة، فالمناسب سقوط هذه الأدلة جميعاً دفعةً واحدةً من دون ملاحظة الرتبة، وفي الحقيقة ملاحظة الرتبة هي قضية فلسفية تسربت إلى علم الأصول، والبعض الذي ينكر على دراسة الفلسفة له حقٌّ من هذه الناحية، لأنها أحياناً تؤثر تأثيراً سلبياً من حيث لا نشعر، ولكن هذا لا يعني أنَّ دراسة الفلسفة ليست لها إيجابيات ولأجل سلبية واحدة نغضّ النظر عنها فإنَّ هذا خلاف الانصاف.

أجل نستدرك ما إذا كان مفاد أحد الأصلين يغاير مفاد الأصل الآخر:- كما إذا فرض أنَّ أحد الأصلين يرتبط بالحلّية والآخر يرتبط بالطهارة، فهنا مثلاً يتساقط الأصلان المتشابهان المرتبطان بالطهارة ونرجع آنذاك إلى أصل الحلّية، لا من باب أنَّ رتبة هذا الأصل غير رتبة ذاك، وإنما لأجل نكتة عرفية، وهي أنَّ المعارضة تصير بين الدليلين اللذين يكون مضمونهما واحداً، فإنَّ دليل قاعدة الطهارة في هذا الطرف ودليل قاعدة الطهارة في ذاك الطرف مفادهما واحد وهو الطهارة، فتصير معارضة، أما الدليل الذي يكون مفاده شيئاً آخر فلا يدخل في عملية المعارضة، فهنا نسلّم بأنه لا بأس بتساقطها والرجوع إلى أصل الحلّية، لا من باب مسألة الرتبة وأنَّ رتبته متأخرة، بل من باب أنَّ المعارضة تتحقق بين المتشابهين - بين ما يرتبط بالطهارة هنا وما يرتبط بالطهارة هناك -.

وخذ مثالاً على ذلك:- كما لو فرض أنه كان يوجد لدينا خشبتان نعلم بنجاسة واحدة منهما وأصاب احدى الخشبتين سائلاً كماء البرتقال، فهنا يتعارض أصل الطهارة في الخشبة الأولى مع أصل الطهارة مع الخشبة الثانية، يعني دليل ( كل شيء لك طاهر ) لا يمكن أن يشمل كلا الخشبتين، وهكذا ماء البرتقال يدخل أصل الطهارة فيه في المعارضة فيسقط أيضاً، لأننا بالتالي نعلم إما بنجاسة الخشبة الأولى مع ماء البرتقال الذي أصابها أو بنجاسة الخشبة الثانية، فدليل أصل الطهارة لا يشمل هذه الثلاثة فيسقط، ولكن نشك بأنَّ شرب ماء البرتقال هل هو حلال أو ليس بحلال فنجري أصالة الحلّ فيه، لأنه لم يكن طرفاً للمعارضة وإنما كانت المعارضة تختص بالأصلين المتشابهين أما هذا الأصل فليس مفاده الطهارة بل مفاده شيء آخر ولا يوجد ما يعارضه فيسقط ذانك الأصلان - أصل الطهارة في الخشبة الأولى وأصل الطهارة في الخشبة الثانية - ونرجع إلى أصل الحلّية في ماء البرتقال .

وقد يقول قائل: - إذا سقط أصل الطهارة حتى في ماء البرتقال فكيف تشربه؟

قلت: - إنه لم يثبت بذلك أنه نجس، نعم لا يمكن أن نحكم بطهارته، فإن قلنا بأنَّ جواز الأكل والشرب منوط بالطهارة فلا مثبت للطهارة، فلا يجوز التناول، وإن قلنا بأنَّ النجاسة مانعة لا أنَّ الطهارة شرط في حلية التناول فالنجاسة هنا ليست بثابتة، فلا مانع من تناوله، فبناءً على مانعية النجاسة من جواز التناول يجوز تناوله، وأما بناءً على شرطية الطهارة لا يجوز تناوله لأن أصل الطهارة فيه قد سقط.

التنبيه الثاني: -

إنَّ الشيخ يوسف البحراني(قده) في الحدائق[1] يرى أنَّ العلم الإجمالي إنما يكون منجّزاً فيما إذا كان الحكم الثابت في الطرفين متشابهاً لا ما إذا كان مختلفاً، ومثال المتشابه هو إما أن يكون هذا الطرف نجساً أو ذاك الطرف نجساً، فهنا الشيخ البحراني(قده) يتفق مع البقية في أنَّ هذا العلم الإجمالي منجّز، وأما إذا علم بأنه إما أن يكون هذا الطرف نجساً أو ذاك الطرف يحرم التصرف فيه من باب أنه مغصوب فهما من جنسين مختلفين، فهنا قال إنَّ العلم الإجمالي هنا لا يكون منجّزاً، لأنَّ شرط منجّزية العلم الإجمالي اتحاد مفاد الحكمين في الطرفين.

وقد تعرض الشيخ الأعظم(قده) إلى ذلك أيضاً في الرسائل[2] .

والجواب على كلام الشيخ يوسف البحراني(قده) واضح جداً حيث يقال: - إنَّ العقل لا يرى فرقاً بينهما فهو بالتالي هو يجزم بتوجه حكم إليه إما أن هذا الطرف نجس او ذاك الطرف مغصوب، فهو يعلم بتوجه إما حرمة شرب هذا الطرف أو حرمة التصرف في المغصوب، فمادام يعلم بثبوت أحد الحكمين فالعقل لا يرى فرقاً بين أن يكون الحكمان متشابهين ومن حقيقةٍ واحدةٍ أو يكونا من جنسين مختلفين، ولا يوجد ردّ على الشيخ البحراني(قده) أكثر من هذه القضية الوجدانية.


[1] الحدائق الناضرة، الشيخ يوسف البحراني، ج1، ص517.
[2] فرائد الأصول، الأنصاري، ج2، ص209.