الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

41/03/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - التنبيه الثالث ( هل تجري البراءة في الشبهات الموضوعية ) - تنبيهات أصالة البراءة - مبحث الأصول العملية.

استدراك:- ذكرنا فيما سبق أننا نتكلم تحت عنوان ملاحظات وذكرنا في الملاحظة الأولى أنَّ الأصوليون قالوا إنه عند الشك في التكليف تجري البراءة، ونحن في الملاحظة الأولى قلنا نحن نذكر موردين هما من الشك في ثبوت التكليف ولكن مع ذلك لا يجري الأصوليون فيهما البراءة، المورد الأول الشك في الامتثال وهذا لا استدراك لنا فيه، والمورد الثاني الشك في القدرة، يعني إذا كنت في اول الوقت وأردت أن اصلي فمن قال أني سوف أبقى حياً حتى نهاية الصلاة بل احتمل أني أموت أو يغمى علي أو غير ذلك فلا جزم عندي بثبوت القدرة على أداء الصلاة إلى نهاية الصلاة، وإذا شككت في القدرة فقد شككت في اصل توجه التكليف فمن المناسب اجراء البراءة وهذا إشكال على الأصوليين والقواعد الأصولية لأنَّ وجوب والصوم ووجوب الصلاة وغير ذلك سوف يرتفع ولا يجب امتثاله، لأنَّ الشك رجع إلى الشك في ثبوت التكليف للشك في القدرة ، وقد أجبنا بما تقدم حيث تمسكنا مرّة بالاستصحاب الاستقبالي، ومرة قلنا إنَّ نفس أدلة الوجوب مثل ﴿ولله على الناس حج البيت﴾ هي بالدلالة الإلتزامية تلغي هذا الاحتمال، كما ذكرنا جواباً ثالثاً.

والاستدراك هنا: - وهو أنَّ هذا كله في إذا قلنا بأنَّ القدرة شرط في متعلَّق التكليف، وأما إذا أنكرنا ذلك وقلنا إنها ليست شرطاً في متعلَّق التكليف بل التكليف ثابت سواء كان الشخص قادراً أو ليس بقادر، نعم القدرة تصير شرطاً في صحة العقاب مثلاً، فإذا بنينا على أنَّ القدرة ليست شرطاً في متعلَّق التكاليف فهذا الاشكال سوف يرتفع من الأسا.

ولكن هل هناك من يقول بأن القدرة ليست شرطاً في متعلق التكاليف وإنما هي شرط في صحة العقوبة أو غير ذلك أما في أصل ثبوت التكليف فليست شرطاً؟

نعم يوجد علمان يقولان بذلك، وهما السيد الخوئي[1] [2] والسيد الخميني[3] ، والسيد الخوئي ذكر هذا في موردين، ولكن لم أسمع منه هذا الرأي ولا مرة واحدة خلال فترة حضوري مجلس درسه.

نعود إلى الكلام في القاعدة النائينية: -

وهذه القاعدة ذكرها في كتابين بشكلٍ ولكنه ذكرها في كتاب ثالث بشكلٍ آخر، ففي كتابين ذكرها هكذا ( إذا كان عندنا حكم إلزامي أو ما يلازم الحكم الإلزامي ثم استثني من الحكم الالزامي حكم ترخيصي معلَّق على عنوان وجودي فلا تثبت الرخصة إلا إذا جزم بتحقق العنوان الوجودي ) من قبيل ما إذا قال ( لا تدخل علي أحداً ) فها حكم إلزامي، ثم قال( إلا أصدقائي ) فهذه رخصة وقد استثنيت من الحكم الإلزامي وهذه الرخصة ثابتة للعنوان الوجودي، أما ما يلازم الحكم الالزامي مثل النجاسة ( كل ماء إذا لاقى نجاسة فهو نجس ) والنجاسة ليست حكماً إلزاميا ولكنها ملامة للحكم الالزامي فكل نجاسة يجب اجتنابها فهي صيغة وتعبيراً ليس مأخوذاً فيها الحكم الالزامي ولكنها تلازم الحكم الالزامين فإذا استثني وأثبتت الرخصة ثم قيل ( إلا إذا كان مقدار الماء كراً فيجوز ارتكابه ) فهذه رخصة استثنيت من الحكم الالزامي أو ما يلازم الحكم الالزامي[4] .

وأما في حاشيته على العروة الوثقى في كتاب النكاح لم يشترط هذه المقدمة وإنما قال ( الرخصة الثابتة لعنوان وجودي ) ولم يقل ( إذا كان هناك حكم إلزامي أو ما يلازم الحكم الالزامي إذا استثني منه ترخيص علقت على عنوان وجودي )، وإنما الموجود هنا هو ( كل رخصة علقت على عنوان وجودي فلابد من احراز ذلك العنوان الوجودي )[5] .

وما هو مدرك الشيخ النائيني(قده) لهذه القاعدة؟

والجواب:- إنَّ المدرك ليس آية ولا رواية وإنما هو العرف، فإذا قيل ( يجوز لك أن تشرب القهوة ) فحينما قيل لك يجوز شرب القهوة فلابد وأن نحرز أنَّ هذا الشيء قهوة أما إذا لم نحرز أنه قهوة فلا تثبت الرخصة، فالشيخ النائيني لا يوجد عنده دليل أكثر من العرف ولكنه حاول أن يستفيد من هذه القاعدة ويطبقها في موارد متعددة، ومن هذه الموارد ما لو فرض أنه كان لدينا ماء نشك في كريته ولاقته نجاسة فإن كان كرا فلا يتنجس وإذا كان اقل من الكر فسوف يتنجس ففي مثل هذه الحالة عندنا حكم إلزامي وهو ( كل ماء لاقته النجاسة فيجب الاجتناب عنه ) فهذا العموم هو حكم إلزامي وقد استثني منه ترخيص وهو ( إذا بلغ الماء قدر كر فلا ينجسه شيء ) أي يجوز لك مزاولته وارتكابه وهذه رخصة، فهنا تأتي هذه القاعدة.

ومن الواضح أنه لأجل أن تظهر الثمرة يلزم أن نفترض أنه لا تجري قاعدة أخرى، وإلا فالاستصحاب إذا فرضنا أن هذا الماء الذي نشك في كريته نستصحب عدم الكرية فيثبت أنه ليس بكر، وإذا ثبت أنه ليس بكر فحينئذٍ يتنجس بالملاقاة ويجب الاجتناب عنه من دون حاجة إلى القاعدة النائينية، فيلزم أن نفترض أنَّ الاستصحاب لا يجري كما لو فرضنا أنَّ الماء مخلوق الساعة.

ولعل قائل يقول: - إنَّ استصحاب العدم الأزلي يجري فيثبت الكرية، لأنه نقول إنَّ هذا الماء قبل خلقته لا ذات الماء موجودة ولا الكرية فنستصحب عدم الكرية.

ولكن نقول: - لنفترض أننا لا نبني على حجية الاستصحاب في الأعدام الأزلية حتى تظهر الثمرة أو أنَّ الثمرة تظهر في تبادل الحالتين أي أن هذا الماء طرأت عليه حالتان مرة الكرية ومرة عدم الكرية ولا نعرف المتقدمة من المتأخرة فحينئذٍ حتى الاستصحاب الأزلي لا يجري، إذ المفروض أن العدم الأزلي قد انتقض لأنَّ الماء حتماً صار كراً في زمانٍ ما، فهنا لا يمكن اجراء الاستصحاب في الكرية أو عدم الكرية فتأتي القاعدة النائينية وتظهر الثمرة في هذا المورد.

وهناك مثال آخر:- وهو ما لو شك في امرأة أنها من المحارم فيجوز النظر إليها أو انها أجنبية فلا يجوز النظر إليها ففي مثل هذه الحالة هناك رخصة ثابتة لعنوان وجودي فيجوز النظر إلى الأخت أو العمة أو الهالة أو ما شاكل ذلك، فأولاً يوجد حكم إلزامي وهو ﴿قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم﴾[6] ثم بعد ذلك يوجد استثناء إما في نفس الآية في رواية كموثقة السكوني عن الصادق عليه السلام ( لا بأس بنظر الرجل إلى شعر أمه أو أخته أو بنته )[7] ، فعندنا حكم إلزامي استثني حكم ترخيصي ثابت لعنوان وجودب وهو الأخت أو الخالة أو العمة فلا يجوز النظر إليها مادامت مشكوكة ولا يجري أصل البراءة لوجود هذه القاعدة.

وهناك مثال آخر:- وهو ما لو فرض أنه كان يوجد مال ولا اعلم أنه ملكي أو ليس ملكي، كما لو فرض أني وجدت طعاماً في الصحراء فيوجد عندنا عموم يدل على أنه لا يجوز التصرف في مال الغير وقد استثني منه عنوان وجودي كما في رواية ( لا يحلّ مالٌ إلا من وجهٍ أحلّه الله )[8] فـ( لا يحل ) هو تحريم إلزامي، و( إلا من وجهٍ أحلّه الله ) يعني فيجوز، وهذا ترخيص فلابد من احراز أنه أحلّه الله.

وهناك مثال آخر: - وهو المرأة التي تشك في أنها قرشية أو ليست بقرشية، فيوجد عندنا عام يقول ( كل دم تراه المرأة إلى خمسين فهو حيض ) وقد استثني منه القرشية وأنها تحيض إلى ستين، فإذا شكت أنها قرشية أو غير قرشية فعلى رأي الشيخ النائيني(قده) تبني على أنها ليست قرشية، لأنَّ هذا استثناء لعنوان وجودي من حكم إلزامي.

هذه بعض الأمثلة التي يمكن التمسك بها لهذه القاعدة، فهل هذه القاعدة تامة أو ليست بتامة؟

[1] الحاشية على أجود التقريرات، الخوئي، ج1، ص153.
[2] الحاشية على أجود التقريرات، الخوئي ج2، ص24، ط جديدة.
[3] تهذيب الأصول، الخميني، ج1، ص244، ط قديمة.
[4] أجود التقريرات، الخوئي، ج3، ص340. فوائد الأصول، النائيني، ج3، ص384.
[5] العروة الوثقى - جماعة المدرسین، الطباطبائي اليزدي، السيد محمد كاظم، ج5، ص500.
[6] النور/السورة24، الآية30.
[7] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج20، ص193، أبواب مقدمات النكاح، باب104، ح7، ط الإسلامية.
[8] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج9، ص538، أبواب الأنفال، باب3، ح2، ط الإسلامية.