41/02/02
الموضوع: - التنبيه الثاني ( قاعدة التسامح في أدلة السنن ) - تنبيهات أصالة البراءة - مبحث الأصول العملية.
وأما الاحتمال الرابع: - هو أنَّ أخبار من بلغ تفيد الارشاد إلى حكم العقل ولا تريد أن تبين اكثر من ذلك - ونقصد من الأكثر يعني الاستحباب الشرعي- فهي ترشد وتقول ( من بلغه ثواب على عمل كان له ذلك ) وبعض الروايات الأخرى تقول ( وإن كان البني لم يقله ) فهي ترشد على حكم العقل والحث على الاتيان بالفعل، فإنَّ العقل يقول ذلك وهي تريد أن تبّين هذا المطلب.
فإذاً دليل وتوجيه هذا الاحتمال واضح وهو ما أشرنا إليه، وهو أنَّ مضمونها يحكم به العقل، فإنَّ العقل يقول مادام يوجد ثواب ولو كانت الرواية ضعيفة فأنت اتِ بالعمل لعلك تحصل على الثواب، فالروايات تحث على العمل وبالتالي أيضاً العقل يحث عليه، فإذاً هي ترشد إلى حكم العقل ولا تريد أن تبيّن شيئاً جديداً، وعليه فسوف لا نستفيد منها الاستحباب الشرعي لأنها تريد أن تبيّن شيئاً آخر وهو الارشاد إلى حكم العقل.
والجواب: - المفروض أنَّ هذه الروايات تقول إذا عملت بذلك العمل فسوف يصل إليك الثواب المقدّر الواصل، ومن المعلوم أنَّ العقل لا يحكم بمقدار الثواب وإنما يحكم بحسن الاتيان بهذا العمل، فإذاً أخبار من بلغ لا ترشد إلى حكم العقل باعتبار أنَّ العقل لا يحكم باستحقاق الشخص الآتي بذلك العمل لهذا المقدار من الثواب وإنما تحثه على أصل العمل، فإذا كان العقل لا يحكم به فإذاً الروايات لا ترشد إلى حكم العقل.
وأما الاحتمال الخامس: - وهو أنَّ هذه الأخبار تَعِدُ بالثواب من دون حثّ على العمل، فإنها لو حثت عليه لصار هذا الاحتمال عين الاحتمال الثاني أو الثالث.
والتوجيه الفني له: - هو إنها بلا إشكال تَعِدُ بالثواب فهي تقول ( من بلغه ثواب على عمل فعمله كان له ذلك الثواب) فهذا وعدٌ بالثواب ولا يوجد حثٌّ لأنها لم تقل ( فاذهب واتِ به وسارع إليه ) فهي تَعِدُ من دون حث، وبذلك يصير هذا توجيهاً للاحتمال الخامس.
وجوابه:- إنها تحث على العمل ولكن الحث على العمل له منشآن، فتارة الكلام يدل على الحث على العمل بالدلالة المطابقية كأن يقول الحديث ( من بلغه ثواب على عمل فعمله كان له ذلك الثواب فاذهب واسرع لعمله )، فهنا تصير الدلالة مطابقية، وأخرى يدل على الحث على العمل بالدلالة التزامية فإن العرف يفهم من هذا الكلام حينما يخبر الامام عليه السلام بأنَّ المؤمن له هذا الثواب الذي بلغه يعني بالتالي يريد أن يقول اذهب واعمل هذا العمل وإلا كان الكلام لغواً وبلا فائدة والامام عليه السلام لا يتلّم بالكلام اللغوي، فإذاً المقصود بالدلالة الإلتزامية هو ( فاذهب واعمل)، فهي تحث على العمل غايته بالدلالة الإلتزامية، فعاد الاحتمال الخامس إلى الاحتمال الثاني أو الثالث ولم يعد احتمالاً جديداً في مقابل ذينك الاحتمالين.
وأما الاحتمال السادس:- والذي كان مضمونه تقوية المحركية، فإنَّ المؤمن قد لا يتحرك بسبب وجود خبرٍ غير متواتر، إذ لعله يقول في نفسه لعل هذا الخبر اشتباهاً أو خطاً أو غير مطابق للواقع فقد لا يتحرك عنه وقد جاءت أخبار من بلغ لتكمّل هذه المحركية وتقول له لا تُعِر أهمية لاحتمال الخطأ وإنما اذهب واتِ بالعمل، ولكنها ناظرة إلى حالة كون الخبر معتبراً، فالخبر الوارد فيه الثواب هو معتبر السند ولكن رغم اعتبار السند المؤمن قد يحتمل الخطأ بسبب أنه خبر واحد وليس متواتراً فتأتي أخبار من بلغ فتكمل هذه المحركية والدفع.
وقد يوجّه هذا الاحتمال: - بأنَّ نفس مفاد أخبار من بلغ أنه ( كان له ذلك الثواب وإن لم يكن بلوغ الثواب صحيحاً ) فإعطاء الثواب حتى على تقدير خطأ الخبر هو معناه تكميل المحركية، فأخبار من بلغ افترض أنه يحتمل أنَّ هذا الخبر الواصل إليك مخطئاً ولكن نعطيك الثواب، فافترض أنه ليس مطابقاً للواقع ولكن مادام قد بلغك هكذا ثواب فنحن نعطيه لك وهذا هو معناه تكميل المحركية وتقويتها وأن الخبر حتى لو كان كاذباً فاذهب واعمله ونحن نعطيك ذلك الثواب.
والجواب:- صحيح هي تفيد تكميل المحركية وتقويتها في نفس المكلف ولكن من أين لك أنَّ أخبار من بلغ ناظرة إلى حالة كون الخبر البالغ والواصل هو معتبر السند ولا يعم حالة ضعف السند ؟!، فإنَّ هذا لا يستفاد من أخبار من بلغ، بل ليس في لسان أخبار من بلغ ما يرشد إلى ذلك وأنه قد وصل الخبر بطريق معتبر، فكان المناسب أن يقول تكميلاً للمحركية أما أنه واصل بطريقٍ معتبر فلا داعي إليه.
هذا بالنسبة إلى الاحتمالات الستة وقد اتضح أن جميعها محل تأمل.والمناسب أن يقال في المقام:- لا إشكال في أن أخبار من بلغ يستفاد منها الحث نحو العمل على طبق الخبر الواصل والدال على ثبوت الثواب على صلاة أول الشهر مثلاً، فثبوت أصل الحث شيء مسلَّم وذلك واضح على لسانها، إنما الكلام أنه هل يستفاد منها الاستحباب النفسي وأنَّ العمل يصير مستحباً كما هي الفائدة المنشودة من أخبار من بلغ فإنَّ الفائدة المنشودة منها هي اثبات الاستحباب فكل ما بلغ عليه الثواب يصير مستحباً بعنوان ( بلغ عليه الثواب ) فنستفيد من ذلك اثبات استحباب أمورٍ لم تثبت استحبابها بطريق معتبر ، فرغم عدم ثبوت استحبابها بطريقٍ معتبر نحكم باستحبابها استناداً إلى أخبار من بلغ، فهل يمكن أن نستفيد الاستحباب النفسي للعمل كما هو الهدف المنشود منها وكما هو مقتضى الاحتمال الثاني والثالث أو لا ؟
والجواب:- إنه لا يمكن اثباته، لاحتمال أن يكون هذا الحث على العمل المستفاد من لسان الروايات ليس ناشئاً من الاستحباب النفسي للعمل وإنما نشأ من باب التحفّظ على المستحبات الواقعية، فإن المكلف إذا ترك العمل بالأخبار الضعيفة فلعله سيفوت عليه شيء من المستحبات الواقعية، ولعل بعض المستحبات الواقعية موجودة في الروايات الضعيفة، فمن باب التحفّظ على الاتيان بالمستحبات الواقعية يمكن أن يكون هذا الحث، فالحث لازمٌ أعم، فكما يلتئم مع الاستحباب النفسي للعمل يلتئم أيضاً مع التحفّظ على المستحبات الواقعية، وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نجزم باستفادة الاستحباب النفسي من أخبار من بلغ للعمل البالغ عليه الثواب، نعم المستفاد منها الحث على العمل أما الاستحباب النفسي فالجزم به مشكلٌ لوجود احتمال التحفظ على المستحبات الواقعية.
والنتيجة من كل هذا: - إنَّه جدير بالمكلف أن يأتي بالمستحبات الواصلة بطريق غير معتبر ولكن لا من باب الاستحباب النفسي وإنما من باب رجاء المطلوبية، وكل عمل يمكن الاتيان به برجاء المطلوبية من دون أيّ محذور، فكل مستحّبٍ وصل بطريقٍ غير معتبر جدير بالمكلف أن يأتي به برجاء المطلوبية.
ثم إنَّ هناك أبحاثاً أخرى في أخبار من بلغ بيد أنَّ المهم منها ما ذكرناه ونكتفي بهذا المقدار.