40/10/22
الموضوع:- التنبيه الأول ( اشتراط عدم الأصل الحاكم ) - تنبيهات أصالة البراءة - مبحث الأصول العملية.
ونلفت النظر إلى قضية:- وهي أنَّ صاحب الحدائق(قده)[1] ذكر أنَّ الأصحاب قالوا إذا شكننا في تذكية حيوان وأن ذكّي أو لم يذكَّ والمفروض أنه لا توجد أمارة على التذكية فهنا لا يجوز الأكل لأصالة عدم التذكية.
ثم أشكل على الأصحاب وقال:- إنه يوجد عندنا دليل على الحلية ، ومع وجود الدليل على الحلية لا تصل النوبة إلى الأصل ، والدليل هو قوله عليه السلام:- ( كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام ) ، وبعد وجود الدليل لماذا تتمسّكون بأصالة عدم التذكية ، أوليس الدليل مقدماً على الأصل ؟
يعني يريد أن يقول:- إنه إذا ذهبنا إلى بلادٍ غير اسلامية وكانت المطاعم ليست اسلامية فمشكوكٌ أنَّ هذا اللحم الموجود عندهم مذكى أو ليس بمذكى - ولنفترض أنه مشكوك التذكية لاحتمال وجود مسلمٍ في هذا المكان وقد ذكّى هذا اللحم لا أنه يوجد جزمٌ بعدم التذكية - فهل يجوز الأكل أو لا ؟ ، قال الصحاب هنا تجري أصالة عدم التذكية ، ولكن صاحب الحدائق قال يجوز الأكل لأنّه يوجد دليل وهو ( كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام ).
والجواب:- إنَّ هذا الدليل الذي ذكره هل هو يبيّن أصلاً عملياً - فإنَّ الأصل العملي أيضاً نأخذه من الرواية - أو أنه دليل اجتهادي ؟ إنه هذا أصل عملي وليست دليلاً اجتهادياً ، فهو أصل عملي يبيّن أنَّ مشكوك الحلّية يبنى على حلّيته ، وهو ما قد نعبّر عنه بأصالة البراءة أو أصل الحلّية ، فإنَّ من أحد مستندات أصل البراءة هو هذا الحديث ، ومادام أصلاً فلا محذور في أن يتقدّم بعض الأصول على البعض الآخر ، فإنَّ أصالة عدم التذكية هي أصل وأصل الحلّية هو أصل أيضاً ولا بأس بتقدّم أحدهما الآخر ، فما ذكره ليس بدليلٍ اجتهادي ، قال:- ( ومن قواعدهم المقررة أنَّ الأصل يُخرَج عنه بالدليل والدليل موجود ) ، فعدّ هذا دليلاً ، وما هو قصده من ( دليل ) فهل يقصد أنه دليل اجتهادي أو هو ما يعمّ الأصل ؟ فإن كان يقصد أنه دليلاً اجتهادياً فهو أوّل الكلام ، فإنه ليس دليلاً اجتهادياً وإنما هو أصل ، فإذا كان أصلا فحينئذٍ لا محذور في تقديم بعض الأصول على البعض الآخر ، وإنما المحذور في تقديم الأصل على الدليل الاجتهادي.
إن قلت:- من أين لك أنَّ رواية ( كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام ) هي أصل عملي وليست دليلاً اجتهادياً ؟
قلت:- أنه توجد قرينة على ذلك ، وهي قوله عليه السلام ( حتى تعرف الحرام ) فمنها نعرف أنه أصل وليس دليلاً اجتهادياً ، يعني ما دمت شاكاً فابنِ على الحلّية حتى تعرف أنه حرام ، والدليل الاجتهادي لا يناط بالعلم وإنما الذي يناط بالعلم والشك هو الأصل العملي ، فالأصل العملي يقول لك إنَّ كل شيء مشكوك فقل هو حلال إلى تعلم أنه حرام ، وقل هو طاهر إلى أن تعلم أنه نجس ، وقل هو مسلم حتى تعلم أنه كافر ... وهكذا ، فمادام يقول ( حتى تعرف ) فهذا معناه أنه أصل عملي وليس دليلاً اجتهادياً ، ومادام أصلاً عملياً فلا محذور في أن تتقدّم أصالة عدم التذكية على أصالة الحِلّ ، إذ تقديم أصلٍ على أصل لا محذور فيه ، وإنما المشكلة في تقدّم الأصلٍ على الدليل الاجتهادي ، وهذا ليس دليلاً اجتهادياً وإنما هو أصل عملي بقرينة ( حتى تعلم ) ، مثل ( كلَّ شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر ).
وقبل أن نختم حديثنا عن التنبيه الأول نلفت النظر إلى شيء:- وهو أنه ما هي التذكية ، فهل هي أمر بسيط أو هي أمر مركّب ؟ ، فإن قلنا إنها فري الأوداج زائداً القبلة زائداً الاسلام فهذا المجموع نسميه التذكية فصارت التذكية أمراً مركباً من عدّة أجزاء ، أو أنَّ التذكية هي أمرٌ بسيط منتزع من هذا الأمر المركّب لا أنها عين الأمر المركّب ، فالتذكية هي حالة بسيطة تنتزع من اجتماع هذ الأمور ؟ هناك احتمالان وأي واحدٍ منهما هو الصحيح فهذه قضية ثانية ، وهو بحث فقهي وهذا حسب ما يستفاد من الأدلة الشرعية ومن العرف أو غير ذلك ، ولكن الكلام هو أنه حينما نطبّق أصالة التذكية عند الشك في تذكية حيوان وبالتالي لا نذهب إلى البراءة أخذاً بأصالة عدم التذكية فالكلام هو أنه هل نطبّق أصالة عدم التذكية من دون تفصيلٍ أو أننا نطبّقها على تفصيل ؟
لم يفصّل الشيخ الأعظم(قده) ولا صاحب الكفاية(قده) في ذلك ولم يتعرضا إلى هذا البحث من قرب ولا من بعد - وأنَّ أصالة عدم التذكية تجري على هذا التقدير دون ذلك التقدير - والحال أنه يمكن أن يفصّل ويقال إنها إذا كانت أمراً مركباً فحينئذٍ قد يمكن احرازها ، بينما إذا كانت أمراً بسيطاً لا يمكن احرازها.إذاً هذا تفصيلٌ قد يبرز في هذا المجال ، لا أن نقول بضرسٍ قاطع إنَّ الأصل عدم التذكية كما صنع العلمان الشيخ الأعظم(قده) الشيخ الخراساني(قده).