40/10/21
الموضوع:- التنبيه الأول ( اشتراط عدم الأصل الحاكم ) - تنبيهات أصالة البراءة - مبحث الأصول العملية.
التنبيه الأول:- اشتراط عدم الأصل الحاكم.
يشترط في جريان أصل البراءة عدم وجود أصل حاكم عليه ، فإذاً هناك موارد لا يجري فيها أصل البراءة لوجود أصل حاكم ، وهناك موارد يجري فيها أصل البراءة لعدم وجود أصل حاكم ، وسوف نذكر أمثلة للأول ثم نذكر أمثلة للثاني.أما أمثلة الأوّل:- فنذكر ثلاثة أمثلة:-
الأول:- ما إذا رأى الشخص امرأةً لا يدري أنها زوجته أو هي أجنبية فهل يمكن أن يجري أصل البراءة فينظر إليها ؟ كلا لا يمكن ذلك ، وذلك لوجود أصل حاكم وهو استصحاب عدم العلقة الزوجية ، فإنَّ الحالة السابقة مع هذه المرأة حتماً هي العدم وإذا كانت هناك علقة زوجية فهي قد حدثت فيما بعد أما قبل حدوثها قبل عشر سنين مثلاً فأتمكن أن أشير إلى هذه المرأة واقول إنه قبل عشر سنين جزماً لا علقة زوجية بيني وبينها ، فعلى كلا التقديرين لا يمكن أن أجري البراءة ، فإنه إذا كانت أجنبية فلا علقة زوجية بيننا ، وإذا كانت زوجتي فقبل عشر سنين أيضاً لا توجد علقة زوجية بيننا فاستصحب عدم تلك العقلة الزوجية إلى الآن ، وهذا أصل موضوعي حاكم على أصل البراءة ، فإنه ينفي موضوع الحلّية ويقول لا يوجد زوجية ، فعلى هذا الأساس الاباحة والبراءة لا تثبتان باعتبار أنَّ الأصل الحاكم إذا جرى لا تصل النوبة إلى الأصل المحكوم ، هذا تقريب.
وهناك تقريب آخر:- وهو أنَّ لا ننظر إلى العلقة الزوجية ، بل لنفترض أنَّ استصحاب عدم العلقة الزوجية لا يجري أو نغض النظر عنه فهناك طريق آخر ، وذلك بأن نشير إلى هذه المرأة ونقول إنَّ هذه المرأة قبلاً كان يحرم النظر إليها والآن نشك فنستصحب الحرمة السابقة ، ومع وجود هذا الاستصحاب لا تصل النوبة إلى أصل البراءة ، فإنَّ الاستصحاب متى ما اجتمع مع البراءة يكون الاستصحاب مقدماً ، وهذه نتيجة متَّفقٌ عليه أما كيف تخريجها فسيأتي الكلام عن ذلك في مبحث التعارض.فإذاً سواء كان الاستصحاب موضوعياً أم حكمياً فهو المقدّم.والفارق بين التقريب الأول والتقريب الثاني:- هو أنَّ الاستصحاب على الأوّل هو استصحاب موضوعي ، بينما على الثاني هو استصحاب حكمي وهو استصحاب الحرمة ، فعلى كلا التقديرين الاستصحاب سواء كان موضوعياً أو حكمياً هو مقدّم على أصل البراءة ، فلا تصل النوبة إلى أصل البراءة.
الثاني:- إذا وجدت مالاً مردداً بين أن يكون لي أو لغيري فهل يجوز أن أجري أصل البراءة وحينئذٍ أستطيع آخذه وأتصرّف فيه اعتماداً وتمسّكاً بأصل البراءة أو لا ؟
الجواب:- إن كانت هناك حالة سابقة وأنَّ هذا المال سابقاً كان ملكاً للغير جزماً ولكن أشك هل انتقل لي أو لم ينتقل فيجري استصحاب ملك الغير ولا تصل النوبة إلى أصل البراءة ، لأن الاستصحاب مقدم على أصل البراءة ، نعم لو فرض أني وجدت المال ولا أدري أنه للغير أو ليس للغير ، كما لو وجدت المال في داري أو في زقاقٍ فمقتضى الأصل هو البراءة ، فيجوز لي أخذه ، إلا إذا انطبق عنوان اللقطة ولكن تلك قضية ثانية ، ولكن بقطع الظر عن ذلك يجري أصل البراءة مادام لا توجد حالة سابقة كي تستصحب.
الثالث:- ما لو فرض أنا شككنا في تحقق تذكية هذا الحيوان وهل هو مذكى أو ليس بمذكى فهل نتمكن أن نجري أصالة البراءة ونأكله أو أنه يوجد أصل آخر ؟
الجواب:- إذا لم تكن هناك أمارة تثبت أنه مذكى أو لا فيجري استصحاب عدم التذكية سواء كانت الشبهة موضوعية أو حكمية ، فإنَّ الشك تارةً يكون في الحكم الكلي فنحن لا ندري أنَّ هذا الحيوان قابل للتذكية أو ليس بقابل لها فهذا شك في الحكم الكلي ، وتارة نعلم بأنه قابل للتذكية ولكن هل ذكّي أو لم يُذكَّ ، فعلى كلا التقديرين سواء كان الشك في الحكم الكلّي - والذي يعبّر عنه بالشبهة الحكمية - أو كان الشك بنحو الشبهة الموضوعية فأنا أعرف أنَّ هذا دجاج وهو قابل للتذكية ولكن لا أعلم أنَّ هذه الدجاجة مذكّاة أو لا ولا توجد أمارة كسوق المسلمين أو أنه بيت مؤمن وإنما بقطع النظر عن وجود أمارة فحينئذٍ استصحاب عدم التذكية يكون جارياً ، فلا تصل النوبة إلى أصالة البراءة لوجود الأصل الحاكم ، أجل إذا فرض أنَّ الحيوان كان قابلاً للتذكية ولكن طرأ عليه طارئ كالجلل مثلاً وشككنا هل الجلل يمنع من التذكية أو لا ، فهنا يمكن أن نشير إلى هذا الحيوان نقول إن هذا الحيوان قبلاً كان يصير حلالاً ومذكّى لو فرينا أوداجه الأربعة والآن يحل أيضاً لو فرينا أوداجه الأربعة بالاستصحاب ، فرغم شكنا في تحقق التذكية أو عدم تحققها ولكن هذا الاستصحاب يثبت أنه قابل للتذكية وأنها متحققة فيه فيما إذا كانت شروط التذكية متحققة فيه لكنَّه صار جلّالاً فشككنا أنَّ الجلل يسقطه عن قبول التذكية وعن الحلّية أو لا فنستصحب أنه حلال لو فريت أوداجه الأربعة ، فتثبت بذلك الحلّية ، ولا يجري استصحاب عدم التذكية ، لأنَّ الحالة السابقة هي قبوله للتذكية فيجري استصحاب قبوله للتذكية.
فإذاً القاعدة المهمة التي نخرج بها هي أنَّ أصل البراءة إنما يجري فيما إذا لم يوجد أصل حاكم عليه سواء كان ذلك الأصل الحاكم موضوعياً أو حكمياً.وأما أمثلة الثاني:- فهي متعددة:-
من قبيل:- ما إذا فرض أننا نجزم بقبول هذا الحيوان للتذكية ولكن شككنا كن المحرمات في الشريعة أو ليس من المحرمات بقطع النظر عن التذكية مثل الجراد ، فإنَّ الجراد ذكاته أخذه من الهواء - هكذا ذكرت الرواية - فأخذنا جراداً فهل يجوز أكله أو لا ؟ إنه نتمكن أن نجري إصالة البراءة ولا يوجد أصل حاكم عليه ، فإنه لا يوجد استصحاب حرمة ولا يوجد استصحاب عدم التذكية ، فشكّنا لم ينشأ من منشأِ إلا أنه في الشريعة نشك أنه من المحرّمات أو لا ولا يوجد مثبت على كونه من المحرّمات ، وليس شكنا في التذكية حتى نجري استصحاب عدم التذكية ، فحينئذٍ يكون حلالاً ، فعلى هذا الأساس إذا شككنا في حليته فأصل البراءة من الحرمة يكون جارياً ، وهكذا لو شككنا في أنَّ الحلزون أو غيره حلال أو حرام ، فكلّ هذه الأشياء يجري فيها أصل البراءة إذا لم يكن الشك ناشئاً من الشك في التذكية ، أو الأرنب فهل حلال أو حرام ؟ إنه إذا لم يوجد دليل يدل على حرمتها فأصل البراءة يقتضي الحلّية ، فإنَّ الأصل الأولي في باب الأطعمة والأشربة هو البراءة.
ومن قبيل:- ما لو فرض أنَّ المورد لم يكن من الأشياء التي تذكّى أو لا تذكّي كالتدخين ، فحينما تشك في حرمة التدخين فهي ليست من ناحية التذكية أو عدم التذكية وإنما أصلاً هو في نفسه هل هو محرّم أو لا فنجري أصل بالبراءة.
والأمثلة من هذا القبيل كثيرة.وقد تعرض الشيخ الأعظم(قده)[1] إلى هذا المطلب ، كما تعرض إليه الشيخ الخراساني(قده)[2] أيضاً.