الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

40/08/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- الاستصحاب في الشبهات الموضوعية - أصل البراءة- مبحث الأصول العملية.

الاستصحاب في الشبهات الموضوعية:-ذكرنا فيما سبق أنه يمكن أن نستفيد من الاستصحاب كوسيلة لإثبات البراءة ، فالبراءة لا يتوقف ثبوتها على مدركها الخاص بل يمكن اثباتها بدليل الاستصحاب والاستصحاب كيف نجريه ؟ إنه في كلامنا السابق بينا أربعة اشكال للاستصحاب إلا أنَّ المهم منهما اثنان ، أما الاثنان الآخران يرجعان إلى هذين الاثنين ، الاثنان الأساسيان هما:-

الأول:- هو أنَّ نذهب إلى ما قبل الشريعة ونقول إنه قبل الشريعة لا وجوب للدعاء عند رؤية الهلال فإذا شككنا بعد الشريعة في وجوب الدعاء نستصحب العدم السبق الثابت قبل الشريعة ، وهذا لنعبر عنه باستصحاب عدم الجعل ، أي استصحاب عدم جعل وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، ومن الواضح قلنا إنه يمكن أن نلحق به استصحاباً ثانياً ، وهو استصحاب بدايات الشريعة ولكن هذا الاستصحاب يرجع إلى ذاك الاستصحاب فروحهما واحدة ولكن الثوب والصورة مختلفة لذلك نحسبهما استصحاباً واحداً.

الثاني:- هو استصحاب عدم الجعل ما قبل البلوغ ، فنقول الآن لا يجب في حقة الدعاء عند رؤية الهلال جزماً فإذا بلغ نستصحب عدم الوجوب السابق الثابت له قبل البلوغ.

ونلفت النظر إلى وجود فارق بين الاستصحاب بشكله الأول والاستصحاب بشكله الثاني:- فالاستصحاب الأول هو استصحاب عدم الجعل ، فالجعل لم يكن موجوداً ، أي عدم التشريع فقبل الاسلام لم يكن هناك تشريع ، وأما الاستصحاب الثاني فهو استصحاب عدم الفعلية ، فقل بلوغ الشخص افترض أنه يوجد جعل على البالغ ولكن هذا الشخص مادام غير بالغ فلا توجد في حقه فعلية لأنَّ شرط الفعلية البلوغ والعقل والقدرة وما شاكل ذلك ، فقبل البلوغ لا أننا نستصحب عدم الجعل وإنما نستصحب عدم الفعلية ، فنقول إنه لا توجد فعلية للوجوب جزماً مادام هذا الشخص غير بالغ لأنَّ شرائط الفعلية هي القدرة والالتفات ومنها البلوغ فقبل البلوغ لا فعلية ، ونحن نقول إنَّ هذان الاستصحابان نتمسّك بهما لإثبات البراءة ، وهذا واضح لحدّ الآن.

والذي نريد أن نقوله:- إنَّ الشك تارة يكون بنحو الشبهة الحكمية ، وأخرى بنحو الشبهة الموضوعية ، والشك بنحو الشبهة الحكمية يعني نحن لا نعلم بأنَّ الدعاء عند رؤية الهلال واجب في الاسلام أو ليس بواجب ، فأصل الحكم لا نعلم بأنه موجود في الاسلام أو لا ، فمتى ما كان الشك في الحكم الكلي وأنه ثابت أو ليس بثابت كحرمة التدخين الكلية وأنها ثابتة أو لا فهذه شبهة حكمية ، ومرّة يكون الحكم الكلّي واضح وإنما يكون الشك في الموضوع ، فهذه تسمى بالشبهة الموضوعية ، مثل وجوب الدعاء عند رية الهلال ، فمرة لا نعلم أنه واجب أو ليس بواجب فهنا تصير الشبهة حكمية ، ومرة نعلم أنه واجب ولكن لا نعلم أنه يلزم أن نقرا الدعاء الآن أو لا لأنَّ الهلال قد رؤي أو أنَّ الذي رأيناه ليس هو الهلال ، فالشبهة هنا سوف تصير موضوعية.

والذي نريد أن نقوله:- هو إنَّ ما ذكرناه فيما سبق من نحوي الاستصحاب تامان وجاريان فيما إذا كانت الشبهة حكمية ، يعني كنا شاكين في الحكم الكلي ، فيمكن أن تجرري الاستصحاب بالنحو الأول ، ويمكن أن تجريه بالنحو الثاني ، يعني أنا لا أعلم هل يجب الدعاء عند رؤية الهلال أو فهذه شبهة حكمية وتستطيع أن تستصحب كلا الشكلين ، فإما أن نستصحب بالشكل الأوّل فنذهب إلى حالة ما قبل الاسلام ونستصحب عدم الوجوب الثابت قبل الاسلام ، وإما أن نستصحب بالشكل الثاني بأن نذهب إلى حالة ما قبل البلوغ فنقول إنه جزماً لا يوجد وجوب فعلي فنستصحب عدم الوجوب الفعلي إلى ما بعد البلوغ.

وأما إذا كانت الشبهة موضوعية:- كما لو كنا نعلم بأنَّ الخمر حرام ولكن هل هذا المائع خمر أو ماء فهذه شبهة موضوعية ، فهل يمكن أن نجري البراءة بكلا الشكلين مرّةً ما قبل الاسلام والتي هي استصحاب عدم الجعل ومرةً ما قبل البلوع والتي هي عدم الفعلية أو أنَّ الذي يجري هو واحد منهما أو أنَّ الاثنين لا يجريان ؟

والجواب:- إنَّ الاستصحاب بشكله الثاني يجري ، فأشير وأقول إنه قبل البلوغ لم يجب عليَّ الدعاء فاستصحب عدم الوجوب - أي عدم الفعلية - إلى ما بعد البلوغ ، وفي مثال الخمر المشكوك أنه خمر أو ماء أقول إنه قبل بلوغي لا فعلية لحرمة شربه أما بعد بلوغي فهل توجد حرمة فعلية لشربه أو لا فاستصحب عدم الفعلية.

فإذاً الاستصحاب بشكله الثاني يجري في الشبهات الموضوعية.

أنما الكلام في جريانه في الشبهات الموضوعية بشكله الأول:- فهل نستطيع أن نجري استصحاب عدم جعل الحرمة قبل الاسلام أو لا نستطيع ؟ إننا لا نستطيع إجرائه ، لأنَّ المفروض أنَّ هذه شبهة موضوعية ، يعني أنك تعرف الحكم الكلي ، فأنت تعرف أنَّ الخمر جعلت له الحرمة جزماً أما غير الخمر فهو حلال كالماء ، فأصل الجعل الكلّي جزمي ، فجعل الحرمة للخمر جزمية ، وجعل الحلية للماء جزمية أيضاً ، فلا يوجد شك في الجعل حتى تستصحب عدم جعل الحرمة قبل الاسلام ، فإنه إن كانت للخمر فنحن نجزم بأنه صارت حرمة ، وإن كانت للماء فنحن نجزم بأنه لا توجد حرمة ، فلا يمكن استصحاب عدم الجعل ، إذ لا شك في الجعل ، أما بالنسبة إلى الخمر فنحن نعلم بتحوّل عدم الجعل قبل الاسلام إلى جعل الحرمة ، وأما بالنسبة إلى الماء فلا جعل للحرمة قبل الاسلام ولا جعل للحرمة بعد الاسلام ، فلا يمكن استصحاب عدم الجعل في الشبهة الموضوعية.

هذا ولكن السيد الخوئي(قده)[1] قال:- إنه يجري حتى في أصل الجعل ، فإنَّ الجعل الكلي على الموضوع الكلي ينحلّ[2] إلى جعول جزئية بعدد الأفراد ، فلو كان يوجد مائة فرد من الخمر نجزم بأنَّ كل واحدٍ منها خمر ، وسوف نجزم بأنه يوجد مائة جعل ، لأنَّ الجعل الكلي ينحل إلى جعولٍ جزئية ، وإذا كان يوجد فردٌ رقمه مائة وواحد ونشك أنه خمر أو لا فهذا شك في أصل ثبوت الجعل فنستصحب عدم الجعل.

والمنبه على كون الجعل الكلي ينحل بعدد الأفراد:- إنه فقهياً لا إشكال في اجراء البراءة في الموضوعات الجزئية ، فلو شككنا أنَّ هذا خمر أو لا فسوف نجري البراءة عن حرمته ، ولو شككنا بأنَّ ذاك خمرٌ فسوف نجري البراءة عن حرمته ، فلو كانت الأفراد ليس لها جعول جزئية كيف نجري البراءة فيها ؟!!.

ونحن نساعده ونذكر منبهاً ثانياً فنقول:- إنه إذا شرب المكلف واحداً من الأفراد وكان خمراً جزماً فسوف يستحق عقوبة واحدة ، أما إذا شرب فرداً ثانياً وكان خمراً جزماً فهنا يستحق عقوبة ثانية ، فكيف تتعدد العقوبة إذا لم تكن هناك جعول جزئية ؟!!


[1] مصباح الأصول، الخوئي، ج2، ص337.
[2] يعني جعل الحرمة على عنوان الخمر الكلي.