40/08/23
الموضوع:- استصحاب البراءة - أصل البراءة- مبحث الأصول العملية.
ثانياً:- إنَّ استصحاب عدم اطلاق الأقل يمكن أن نقول إنه تارة نبني على أنَّ الاطلاق أمر وجودي ، وأخرى نبني على أنه أمر عدمي ، فإنه يوجد خلاف في ذلك وقد ذكرت في ذلك عدة احتمالات ، فهناك من قال بأنَّ الاطلاق أمر وجودي وهو عبارة عن ملاحظة القيود والجمع بينها ، فهو عبارة عن الجمع بين القيود ، وعلى هذا سوف يصير الاطلاق أمراً وجودياً ، لأنك سوف تلاحظ القيود وتجمع بينها ثم تصب الحكم عليها كلها ، مثلاً لو قلت ( أكرم الفقير ) ، فيوجد عندنا فقير طويل وفقير قصير وفقير سيد وفقير عامي وفقير من أهل الحلة وفقير من أهل النجف وفقير أبيض وفقير أسود .... هكذا ، فألاحظ كل هذه القيود[1] وأصبّ الحكم على المجموع ، وبناءً على هذا سوف تصير عملية الاطلاق عملية شاقة ، وسوف يلزم من ذلك أن يكون الحكم متعدداً بعدد هذه الأمور التي لاحظتها ولا يصير واحداً.
إذاً يوجد رأي يقول بأنَّ الاطلاق أمر وجودي بمعنى ملاحظة جميع القيود ثم بعد ذلك رفضها ، فيرفض جميع هذه القيود ويقول هي ليست معتبرة.وإن شئت قلت:- إنه مرة نقول إن الاطلاق عبارة عن الجمع بين القيود ، وقد قلنا أنه يلزم تعدد الحكم ، ومرّة نقول إنَّ الاطلاق عبارة عن رفض القيود لا الجمع بينها ، بل هو يلاحظها ثم يرفضها ، فحينما يلاحظها فإذاً الاطلاق صار أمراً وجودياً.فإذاً الاطلاق قد يفسّر بالأمر الوجودي بأحد شكلين ، فإما أنه بمعنى أنَّ المتكلم يلاحظ كلّ القيود فصار أمراً وجودياً ولكن سوف يصير الحكم متعدداً ، أو أنه يلاحظ كل القيود ثم يرفضها كلّها ، فمرة يفسّر الاطلاق بالجمع بين القيود ، ومرة يفسّر برفض القيود ، وعلى كلا التقديرين سوف يصير أمراً وجودياً .وفي مقابله يقال إنَّ الاطلاق ليس فيه ملاحظة الجمع بين القيود ولا رفض القيود ، وإنما ملاحظة ذات الطبيعة من دون ملاحظة شيء ، أي ذات الفقير من دون ملاحظة شيء آخر ، وبناءً على هذا سوف يصير الاطلاق أمراً عدمياً ، يعني عدم ملاحظة شيء مع الطبيعة ، فأنا لم ألاحظ أكثر من الطبيعة.فإذا عرفنا هذان المبنيان في باب الاطلاق نأتي ونسجّل إشكالاً على السيد الخوئي(قده) ونقول:- إنك قلت إنَّ الاستصحاب الأول[2] معارض باستصحاب عدم اطلاق الأقل ، فنقول إنَّ هذه المعارضة تتم بناءً على كون الاطلاق أمراً وجودياً ، يعني عبارة عن ملاحظة الجمع بين القيود أو ملاحظة رفض القيود ، فالمعارضة إن تمت فهي تتم على هذا التقدير[3] ، أي أنها تتم بناءً على تفسير الاطلاق بالأمر الوجودي ، وأما إذا فسّرناه بالأمر العدمي - كما هو ليس ببعيد - فبناءً على هذا سوف يثبت الاستصحاب الأول الاطلاق ولا تصل النوبة إلى الاستصحاب الثاني ، لأنَّ الاستصحاب الأول يقول نحن نستصحب عدم تقيّد الطبيعة الأقل بالقيد المشكوك وهذا عبارة عن الاطلاق ، يعني أنَّ الطبيعة الأقل لم يلحظ معها القيد المشكوك وهذا هو الاطلاق ، ومعه فالاستصحاب الأوّل يُثبِت الاطلاق ، وبالتالي لا تصل النوبة إلى الاستصحاب الثاني لنفي الاطلاق ، وبالتالي تنتفي المعارضة ، فإذاً لا توجد معارضة لثبوت الاطلاق بالاستصحاب الأوّل.
هذا بالنسبة إلى المورد الأول الذي ذكره السيد الخوئي وقد اتضح أننا أجبنا عنه بجوابين.وأما المورد الثاني الذي أشكل فيه السيد الخوئي(قده) وقال إنه لا يجري الاستصحاب وتظهر الثمرة للبراءة حيث قال:- أما إذا فرض أنَّ جواز شيء كان معلقاً على إباحة شيء ، من قبيل جواز الصلاة فإنه مرتّب على إباحة اللباس ، فلو شككنا في اباحة اللباس وأنه مباح أو لا ، فهنا لا يمكن اثبات الاباحة باستصحاب عدم الحرمة بأن نقول إنه قبل الاسلام أو بداية الشريعة أو قبل البلوغ لم تجعل حرمة للبس هذا اللباس ، فإذا شككنا في الحرمة نستصحب عدم الحرمة السابقة فإنَّ هذا كلام باطل ، لأنَّ استصحاب عدم الحرمة لا يثبت الاباحة إلا بالأصل المثبت ، فهو مثل استصحاب عدم وجود السواد على الورقة حتى نثبت البياض ، فواضح أنَّ هذا أصل مثبت لأنك تنفي بالأصل أحد الضدّين حتى تثبت الضد الآخر وهذا من أوضح مصاديق الأصل المثبت ، فهنا بما أنَّ جواز الصلاة مرتّب على إباحة اللباس وأنا لا أعلم بأنَّ هذا اللباس مباح أو ليس بمباح فهذا لابد أن تثبت اباحته باستصحاب عدم الحرمة قبل الاسلام أو قبل البلوغ ، وهذا أصل مثبت ، لأنك تستصحب عدم حرمته حتى تثبت اباحته ، فالاستصحاب لا يمكن التمسّك به ، وإذا لم يمكن التمسك به تصل النوبة إلى البراءة ، فنقول نحن نشك هل تقيدت ذمتنا بالصلاة المقيدة بعدم لبس هذا الثوب أو لا فأجري البراءة عن تقيد الصلاة بعدم لبس هذا الثوب ، وبذلك ثبت المطلوب ، وأتينا بالمثال على ذلك ، لأننا كنا نريد أن نأتي بموردٍ لإثبات أن البراءة حينما شرّعها الله تعالى لا تكون عبثاً وهذا مورد ثانٍ تجري فيه البراءة ، لأنه تعذر فيه جريان الاستصحاب فإنَّ استصحاب عدم الحرمة لا يثبت الاباحة هنا ، فإذا لم يثبت الاباحة فنجري البراءة عن تقيد الصلاة بعدم لبس هذا الثوب ، فأجرينا البراءة بعد تعذر الاستصحاب ، فلا تقل إنَّ تشريع البراءة لا فائدة فيه وأنَّ تشريعها لغو بعد وجود الاستصحاب ، بل نقول إنَّ المورد هنا لا يجري فيه الاستصحاب فتصل النوبة إلى البراءة.
والجواب:- صحيح أنا إذا أردنا أن نجري استصحاب عدم الحرمة لإثبات الاباحة يكون أصلاً مثبتاً ، ولكن لنستصحب الاباحة نفسها ، لا أننا نذهب إلى استصحاب عدم الحرمة ، بل نستصحب نفس الاباحة ونقول إنَّ هذا الثوب قبل الاسلام أو قبل البلوغ لا توجد حرمة في حقي ولا يوجد منع في حقي لأنه لا يوجد تكليف في حقي قبل الاسلام أو قبل البلوغ ، فإذا لم يكن التكليف موجوداً فهذا يعني أنه الرخصة والاباحة ، فإنَّ عدم المنع هو رخصة واباحة ، فأستصحب تلك الاباحة الثابتة فيما سبق والتي هي عبارة أخرى عن عدم المنع ، فلا تقل لا يوجد أصل يثبت الاباحة ، وإنما هذا أصل يثبت الاباحة.