40/08/11
الموضوع:- استصحاب البراءة - أصل البراءة- مبحث الأصول العملية.
ويردّه:-أولاً:- إنَّ الأصولي وهكذا الفقيه قد يذكر أدلة متعددة والجميع يؤدي إلى نتيجة واحدة ، وإذا سألت بأنه لماذا يتمسّك بأدلة متعددة بعد فرض أنَّ بعضها يؤدي إلى النتيجة فما الحاجة إلى التمسك بالأدلة الأخرى ؟ كان الجواب:- هو أنَّ الأصولي أو الفقيه يريد أن يقول إنه لو قطعنا النظر عن هذا الدليل فعندي ذلك الدليل ، ولو قطعنا النظر عن ذاك الدليل فعندي هذا الدليل ، فهو يتمسك بكل واحدٍ بقطع النظر عن الآخر ، وهذه هي القضية الفنية الصناعية التي يسير عليها الأصوليون والفقهاء ، وهي الطريقة العامة ، ولذلك أحياناً نقول هكذا ( طهارة الماء - مثلاً - يدل عليها أمران أصل الطهارة وقوله تعالى ﴿ وأنزلنا عليكم من السماء ماءً طهورا ﴾ ، فمع وجود الآية الكريمة ما المعنى للتمسّك بأصل الطهارة ؟ والجواب ليس إلا أنه كل واحدٍ في حدّ نفسه بغضّ النظر عن الأخر صالح للتمسك به ، وهذه هي طريقتنا التي تعلمناها في الفقه والأصول خلف عن سلف ، وهنا أيضاً كذلك فنحن نتمسّك باستصحاب رغم وجود قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فإنَّ مقصودنا أنه لو غضضنا النظر عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان أمكن التمسك بالاستصحاب ، ولو قطعنا النظر عن الاستصحاب أمكن التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فكل واحدٍ منهما صالح للدليلية بقطع النظر عن صاحبه ، هذا هو المقصود ، فإذاً إشكال في البين.
ثانياً:- نقول إنَّ استصحاب يثبت البراءة بدرجةٍ أقوى ، فإنَّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان تثبت البراءة بمجرد الشك فمادمت شاكاً فقاعدة قبح العقاب بلا بيان إنَّ ذمتك بريئة ، وأما الاستصحاب فهو يرفع الشك ويقول لا يوجد شك في حرمة التدخين بل أنا أقول لك لا حرمة للتدخين ، فإذاً دور كل واحدٍ يغاير دور الآخر ، فدور قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو التأمين من العقوبة حالة الشك ، أما استصحاب فدوره التأمين برفع الشك ، وهذا دور أقوى من دور البراءة العقلية ، فاختلف ما يقوم كل واحدٍ به من دور ، وإذا اجتمعا حصل بذلك براءة أقوى وأقوى ، يعني بدلاً من كون البراءة تثبت بقاعدة قبح العقاب بلا بيان صارت ثابتة بشيءٍ آخر وهو استصحاب فتقوّت ، لأنَّ الاستصحاب رفع الشك ، وهذا شيء نافع ومطلوب ، وهو أن نثبت البراء بدرجةٍ أقوى فقاعدة قبح العقاب بلا بيان وإن كانت تثبت البراءة ، ولكن إذا ضممنا إليها الاستصحاب صار البراءة آنذاك أقوى ، لأنها نفت الشك من الأساس وحينئذٍ لغوية وهذه قضية مطلوبة.
هذا ولكن الشيخ العراقي(قده)[1] والسيد الخوئي(قده)[2] أجابا بجواب آخر:- وحاصل ما ذكراه: إنه حينما يجري الاستصحاب ارتفع الشك ، فإنَّ الاستصحاب يرفع الشك خصوصاً إذا بنينا على أنّ المجعول فيه العلمية ، فإنه يجعلني عالماً بأنه لا حرمة للتدخين في الزمن السابق وإلى الآن ، وإذا تبدّل عدم البيان إلى بيان العدم وأنه هناك بيانٌ لنفي الحرمة ارتفع بذلك موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لأنَّ موضوعها هو الشك ، فلم يجتمعاً في موردٍ واحد حتى يأتي ما أفاده الشيخ النائيني(قده) ، بل متى ما جرى الاستصحاب ارتفع الشك ، وإذا ارتفع الشك ارتفعت قاعدة قبح العقاب بلا بيان ويبقى استصحاب وحده.
فإذاً الشيخ النائيني(قده) كان يتصوّر أنَّ الاثنين يجريان معاً ، فإذا جرى الاثنان فبعد ثبوت البراءة العقلية لا حاجة إلى الاستصحاب ، فإنَّه شيء ثابت بحكم العقل الجزمي فلا داعي إلى الاستصحاب ، يعني اثبات الأمر المتيقن بالدليل وهذا لا حاجة إليه ، بينما على هذا الجواب يقال هما ليسا مجتمعان ، بل يوجد الاستصحاب فقط ، لأنه إذا جرى رفع الشك ، وإذا رفع الشك فقاعدة قبح العقاب بلا بيان لا تكون قابلة للجريان ، فلا يلزم من ذلك المحذور.