40/06/05
الموضوع:- أصل البراءة- مبحث الأصول العملية.
النقطة الثالثة:- هل الرفع واقعي أو ظاهري ؟
قد يقال:- إنَّ الرفع في الحديث - أي ( رفع ما لا يعلمون ) واقعي - ، وذلك لبيانين:-
الأول:- التمسّك بقرينة السياق ، فإنَّ الرفع في بقية الفقرات واقعي فيلزم أن يكون الرفع في هذه الفقرة واقعياً أيضاً ، والوجه في كونه رفعاً واقعياً في بقية الفقرات واضح ، فإنه في مثل ( رفع ما اضطروا إليه ) إذا اضطر الانسان إلى شيءٍ فالحكم بالتحريم مثلاً يرتفع واقعاً ، وهذا من المسلّمات ، فلو اضطر الانسان للعلاج بأن يتناول شيئاً من المحرّم كشرب الخمر فحينئذٍ الرفع يكون واقعياً ، فواقعاً ترتفع الحرمة في حقه ، وهكذا في ( رفع ما استكرهوا عليه ) فلو أكرهت على شيءٍ بأن قال لي الظالم عليك أن تشرب الخمر وإلا قتلتك فهنا سوف يرتفع التحريم واقعاً ، وكذلك الحال في ( رفع الخطأ والنسيان ) فإنه في هذه الموارد يرتفع الحكم واقعاً.
فإذاً بقرينة السياق في بقية الفقرات حيث إنَّ الرفع فيها واقعي يلزم أن يكون الرفع في فقرة ( ما لا يعلمون ) واقعياً أيضاً .
البيان الثاني:- إنَّ ارادة الرفع الظاهري مخالفة للظاهر ، بينما ارادة الرفع الواقعي موافقة للظاهر ، وعند دوران الحديث بين معنيين أحدهما موافق للظاهر والآخر مخالف للظاهر فالمناسب حمله على ما يوافق الظاهر ، فإن سيرة العقلاء قد جرت على حمل الألفاظ على ظاهرها.
أما أنه كيف أنَّ الرفع الظاهري مخالف للظاهر ؟ذلك باعتبار أنَّ الرفع الظاهري يحتاج إلى إعمال إحدى عنايتين كما أوضحنا سابقاً ، إما العناية في المرفوع فنقدّر المرفوع بوجوب الاحتياط فنقول هنا كلمة محذوفة وهي ( رفع عن أمتي وجوب الاحتياط عن الحكم الذي لا يعلمونه ) ، والتقدير خلاف الظاهر ، أو نعطي الرفع معنىً آخر وذلك بأن نقول إنه ليس المقصود من الرفع هو رفع الشيء وازالته من جذوره وإنما الرفع بمرتبة من المراتب وذلك برفع وجوب الاحتياط إزاء التكليف ولكن من دون تقدير وجوب الاحتياط ، بل نجعل معنيين للرفع المعنى الظاهري وهو الرفع الذي نفهمه وهو ازالته من الأساس ، وهذا الرفع الثاني الذي هو نصف رفعٍ - إن صحّ التعبير - وهو بمعنى رفع وجوب الاحتياط ولكن من دون تقدير وهذا مخالف للظاهر.فإذاً قد يقال إنَّ المراد هو الرفع الواقعي إما لقرينة السياق أو لأجل أنه هو الموافق للظاهر.وذكر السيد الروحاني(قده)[1] أنَّ الرفع في الحديث واقعي وليس ظاهرياً:- ومستنده في ذلك السياق[2] ، مضافاً إلى أنه لا يوجد خبر يدل على أنَّ الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل ، نعم إن ورد ذلك فقد ورد في الشبهة الموضوعية ، ففي الشبهة الموضوعية يكون الحكم مشتركاً بين العالم والجاهل ، من قبيل النجاسة أو الحلّية المستندة إلى حديث ( كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه نجس ) فإنه يعطي أنه قبل علمك هو نجس واقعاً ولكنك معذور إلى أن تعلم بأنه نجس ، فهذا يدل على أنَّ الحكم هو النجاسة ، وهكذا الحرمة في ( كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام ) في الشبهة الموضوعية يفهم أنَّ النجاسة والحرمة هي ثابتة واقعاً في حق الاثنين لكن الجاهل معذور مادام لا يدري بأنَّ هذا نجس فله الحق في أن يرتّب آثار الطهارة إلى أن يعلم بأنَّ هذا الشيء نجس ، وفي الحرمة أنَّ الحرمة ثابتة في حقه لكنه معذور إلى أن يعلم بأنَّ هذا الشيء حرام ، فمن هذا الخبر وذاك الخبر يفهم أنَّ الحكم مشترك ، وهذا ليس بمهم.
بل المهم فيما ذكره هو أنَّ نقول إنَّ المقصود هو الرفع الواقعي تمسّكاً بقرينة السياق ، وأما ما يقال بوجود أخبارٍ متواترة تدل على الاشتراك فباطل ، فلا يوجد خبر يدل على الاشتراك ، نعم قد يستفاد الاشتراك في الشبهة الموضوعية.وفي التعليق نقول:- صحيح أنه لا يوجد خبر يقول إنَّ الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل ، ولكن يستفاد ذلك منها بالدلالة الإلتزامية أو غير ذلك ، فإنه يمكن أن نستفيد الاشتراك من بعض القرائن:-
القرينة الأولى:- ما دل على عدم معذوية الجاهل ، حيث ورد أنه ( يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له: هلّا عملت ؟ فيقول: لم أعلم ، فيقال له: هلّا تعلمت ؟ .... ) ، فوجوب التعلم هذا يلتزم به كل فقيه ، ولا يوجد من لا يلتزم به ، وهذا دليل قطعي ، بل حتى السيد الروحاني(قده) لا يستطيع أن يقول إنَّ تعلم الأحكام ليس بواجب ، ولكن على رأيه يصير تعلّم الأحكام ليس بواجب بل ليس بممكن ، لأنه لا يوجد حكم في حق الجاهل فماذا يتعلم ؟!! فعلى رأيه لا يكون التعلّم واجباً ولا ممكناً ، بل هو غير ممكن.
إذاً هذا مستندٌ واحد ولكنه قد يفيد القطع للفقيه.القرينة الثانية:- إنه على رأيه يلزم أن يكون العلم موجداً لمتعلقه ، يعني قبل أن تتعلّم لا يوجد حكم وإما إذا تعلمت فعلمك سوف يصير موجداً للحكم[3] ، ولكن نقول نحن نأتي إلى النظرة العقلائية ، فالعقلاء يرون أنَّ العلم دائماً هو طريق للمتعلّق لا أنه موجدٌ له ، فعلمي بوجود الأسد لا يوجِد الأسد وإنما هو طريق يكشف عن وجوده ، فدور العلم دور الطريق وليس دور الموجِد ، وهذا لا يحتاج إلى دليل ، بينما على رأي السيد الروحاني(قده) يلزم أن يكون العلم موجِداً لمتعلقه.
القرينة الثالثة:- إنه يلزم على ما ذكره أنَّ الاحتياط غير ممكن في موارد الشك في التكليف ، فمثلاً إذا شككنا في أنَّ الدعاء واجب عند رؤية الهلال أو لا فنقول إنَّ الاحتياط حسنٌ ، وإذا شككت في أنَّ غسل الجمعة واجب فالاحتياط حسن ، ولكن على رأي السيد الروحاني(قده) لا يمكن الاحتياط لأني مادمت ليس بعالم فلا يوجد حكم واقعاً فكيف الاحتياط ، لأنَّ الاحتياط هو لأجل احتمال الوجوب ولكن على ما أفاده لا يوجد وجوب أصلاً فلا معنى للاحتياط ، فالاحتياط أصلاً يلزم أن يكون غير ممكن ، والحال أنه ممكن بلا إشكال ، وهذا أحد القرائن على أنَّ الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل.
القرينة الرابعة:- إنه يلزم عدم إمكان تشريع حجية الأمارة ، فالأمارة مثل الخبر يلزم عدم إمكان أن يجعل الشرع المقدس الحجية له ، لأنَّ الخبر هو يُخبِر فإذا قلنا إنه قبل العلم لا يوجد حكم فهو يُخبِر عن ماذا ؟!! ، ولا معنى لتشريع الحجية للخبر لأنه لا يوجد واقع ثابت في حق الجاهل حتى تكون الأمارة أمارة عليه حتى تشرّع الحجية لها.
القرينة الخامسة:- إنَّ الحديث عبرّ بالرفع فقال ( رفع ما لا يعلمون ) ، فنفس كلمة الرفع تستدعي ثبوت شيء ولكنه تخفيفاً مادمت لا تعلم به فقد رفع عنك ، وأما إذا لم يكن الشيء ثابتاً في الواقع فالتعبير بـ ( رفع ) مجاز ومسامحة ، فنفس تعبير ( رفع ) يستبطن[4] وجود شيء حتى يرفع وإلا فالرفع يكون لأيَّ شيء ، فإنه لا يوجد حكم ؟!! ، وهكذا التعبير بـ ( ما لا يعلمون ) يعني الشيء الذي لا يعلمونه ، فيظهر أنَّ هناك شيئاً ثابتاً وهو متعلّق للعلم تارةً ولعدم العلم أخرى وإلا فليس من المناسب التعبير بـ ( رفع ما لا يعلون ) ، وإنما المناسب أنَّ يقال ( رفع ما ليس بثابت ) لأنه ليس بثابت أصلاً.
فهذه قرائن على وجود شيء مشترك.فالسيد الروحاني(قده) تمسّك بالسياق ونحن نقول إنه بعد وجود الدليل على تفكيك السياق الواحد يلزم الأخذ به ، والمفروض أننا قد أقمنا قرائن على أنه في فقرة ( ما لا يعلمون ) لا بد أن يكون الرفع ظاهرياً لهذه القرائن التي ذكرناها من وجود حكم مشترك بين العالم والجاهل ، فبعد قيام القرينة يكون تفكيك السياق الواحد لا بأس به ، بل لا تفكيك في السياق الواحد ، فإنه يقصد من كلمة الرفع هو الرفع والاختلاف ليس في معنى الرفع وإنما في مصداق المرفوع ، وإلا فكلمة ( رفع ) هي مستعملة في فقرة ( ما لا يعلمون ) وبقية الفقرات بمعنى الرفع ولكن مصداق الرفع هناك يكون بلحاظ الحكم الواقعي وهنا يكون بلحاظ الحكم الظاهري ، وهذا اختلاف في المصداق وليس اختلافاً في أصل المعنى ، لا أنَّ الرفع رفعان بل معناه واحد لكن مصداقه مختلف ، وهذا ليس من اختلاف السياق الذي يكون مرفوضاً .