40/05/28
الموضوع:- أصل البراءة- مبحث الأصول العملية.
لكن هذا المقدار لا يكفي بل لابد من ضم مقدمة أخرى حيث إنه يرد إشكال ويقال:- إنَّ ما ذكره الشيخ الصدوق من ( أني أنقل الروايات من كتب مشهورة عليها المعوّل ) كان في مقدمة الفقيه ، والمفروض أن روايتنا مذكورة في التوحيد الخصال ، فإذاً هذه المحاولة لا تسمن ولا تغني من جوع ، فإنَّ مركزها هو كتاب الفقيه ، فلو كانت الرواية موجودة في الفقيه لكانت هذه المحاولة جيدة ، ولكنها ليست مذكورة في الفقيه ، فلا تنفعنا هذه المحاولة.
ومن هنا نحتاج إلى مقدمة أخرى حتى نرفع هذا الاشكال ، وتلك المقدمة هي أن يقال إنَّ الشيخ الصدوق ذكر وراية أخرى في الحديث رقم اثنين الذي نقلناه ، وهي المرسلة التي ذكرها الشيخ الصدوق في الفقيه - التي هي الرواية الثانية - ونصّها:- ( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: رفع عن أمتي تسعة أشياء ..... ) فهذه الرواية ذكرها في الفقيه.
وقد تقول:- هي مرسلة وقد ذكرها الشيخ الصدوق في الفقيه نحن كلا منا في الرواية الأولى ؟
ولكن نقول:- نحن نقطع بأنَّ الروايتين الأولى والثانية - أي المرسلة والمسندة - هما رواية واحدة ، فإذا كانت واحدة فعلى هذا الأساس سوف تصير الأولى هي الثانية ، وبالتالي قد ذكرها الصدوق في الفقيه ، فيطبّق عليها حكم كتاب الفقيه.
إذاً نتجاوز هذه المشكلة من خلال دعوى القطع ، وإلا فمن البعيد جداً أنَّ الشيخ الصدوق وصلت له روايتان بلفظٍ واحد ذكر واحدة منهما في الفقيه والأخرى ذكرها في الخصال ، فقطعاً هما رواية واحدة ، وبالتالي يصدق أنه ذكرها في الفقيه لكنه ذكرها بشكلٍ مرسل ، وهذا الارسال لا يضر بعد أن قطعنا بأنها عين المسندة.فإذاً يأتي ما ذكرناه من أنَّ هذه الرواية لابد وأنه أخذها من الكتب المشهورة ، وعليه سوف تتم هذه المحاولة.وفي التعليق يقال:- إنَّ الشيخ الصدوق إذا أخذ الرواية من كتاب أحد الأربعة البقيَّة غير أحمد بن محمد بن يحيى فذكر أحمد بن محمد بن يحيى ما هو دوره ؟ ، فلو فرض أنَّ الشيخ الصدوق أخذها من الرواة الذين قبل أحمد كسعدٍ أو يعقوب بن يزيد أو حمّاد أو حريز فما معنى ذكره لأحمد بن محمد بن يحيى ؟
وبكلمةٍ أخرى: إنه إما أن يكون أحمد واسطة أو يكون ليس بواسطة ، فإن لم يكن واسطة فلماذا ذكر فإنَّ ذكره لا معنى له ؟!! ، وإن كان واسطةً عادت المشكلة ، وإذا قلت: إنَّ أحمد ينقل من الكتب المشهورة ، يعني أنَّ الشيخ الصدوق جالس أما أحمد وأحمد ينقل من تلك الكتب المشهورة ، يعني من كتب سعد أو يعقوب أو .... ، فإذا كان الأمر هكذا فالمشكلة باقية ، إذ لعله يكذب مادام ينقل عنه بالواسطة ، فإما أنه ينقل له عن تلك الكتب المشهورة ولكن يحتمل كذبه ، وأما إذا لم يكن ينقل له فما معنى أن يأتي به في الوسط ؟!! ، فإذاً هذه المحاولة مرفوضة.ولعله بالتأمل يمكن التعليق بتعليقاتٍ أخرى.وأما الرواية الثانية:- والتي هي مرسلة ، وهي ما ذكره الشيخ الصدوق مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:- ( وضع عن أمتي تسع .......... ) ، فكيف نعالج الارسال ؟
والجواب:- هناك محاولتان:-
المحاولة الأولى:- أنَّ نقول: إنَّ الشيخ الصدوق تارةً يروي مرسلاً بلسان ( قال ) ، وأخرى يروي بلسان ( روي ) ، فإذا فرض أنه نقل بلسان ( روي ) فهذه الرواية تصير حكم المرسلات ولا عبرت بها ، أما إذا روى بلسان ( قال ) بحيث نسبها إلى النبي صلى الله عليه وآله أو نسبها إلى أحد المعصومين عليهم السلام[1] فحينئذٍ نقول إنه إذا أرسل بغير بلسان ( قال ) فهذه الرواية ساقطة عن الاعتبار ، وأما إذا أرسل بلسان ( قال ) فهذه الرواية يمكن أن يقال هي معتبرة ، وذلك ببيان مركب من مقدمتين:-
الأولى:- إنَّ التعبير بكلمة ( قال ) يدل على الجزم ، يعني أنَّ الصدوق جازم بنسبة هذه الرواية إلى الامام عليه السلام وإلا فلا يعبّر بكلمة ( قال ) ، فكلمة ( قال ) تدل على الجزم.
الثانية:- إذا تردد أمر الجزم الحاصل للشخص - سواء كان الصدوق أو غيره - بين أن يكون حدسياً أو أن يكون حسيّاً فأصالة الحس العقلائية تقتضي كونه عن حسٍّ وليس عن حدس ، بمعنى أنه عنده طرق متعددة لرواية هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن جزم ، وهذا جزمٌ عن حسٍّ ، لأنه حصل بسبب كثرة الطرق ، في مقابل الجزم عن حدس وذلك بأن يفترض أنَّ السند واحداً لكنه يقطع بها ، كما نحن نقطع أحياناً بذلك ونقول إنَّ هذه الرواية جزماً صادرة من الامام عليه السلام ، من قبيل ما جاء عن أمير المؤمنين:- ( ألا حرّ يدع هذه اللماظة لأهلها ألا وأنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة ..... ) ، فهذه الرواية ليس لها سند ولكن حينما تراها تقول إني أقطع بأنها صادرة من بيت العصمة والطهارة ، وهذا القطع ناشئ عن قوّة الألفاظ وقوّة المضمون ، ولكن هذا القطع يعبر عنه بالقطع عن حدس وليس عن حس ، فنحن نريد أن نقول في المقدمة الثانية أنه متى ما دار أمر النسبة بين أن تكون عن حدس أو عن حس فهناك أصل عقلائي وهو أن يكون الأصل هو الحس دون الحدس ، يعني إنه ناشئ عن طرق متعددة ، وبذلك ثبت ما نريد ، لأنا نريد وجود طرق متعددة تورث القطع بصحة النسبة وقد ثبت هذا من خلال هاتين المقدمتين.
ويمكن مناقشة كلتا المقدمتين:-أما المقدمة الأولى:- فيمكن أن يقال: إنَّ التعبير بـ( قال ) يقصد منه ( على ما هو الوارد في الحديث ) فإنه يصح ذلك ، وذلك مثل ما نحن نذكر على المنبر ونقول:- ( قال النبي صلى الله عليه وآله: طلب العلم فريضة ) ، فهنا قد يقول قائل كيف تقول ( قال) والحال أنها مضمرة ؟!! ، والبعض أيضاً يستشكل في شهر رمضان فيقول: إذا كنت صائماً فكيف أقول ( قال ) فإنَّ هذا غير معلوم ؟ ، ونحن نسهّل عليه ونقول:- ماذا تقصد من ( قال ) ؟ فإنك حينما تقول ( قال ) يعني على ما هو الموجود في الحديث ، ولا تريد أن تقول أنا أجزم بأنه قال ، وإنما تريد أن تقول إني أجزم على ما هو الموجود في الرواية ، فإذا كان هذا هو المقصود فلم تصر هذه نسبة جزمية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما النسبة الجزمية إلى الرواية ، فهنا الصدوق أيضاً كذلك ، فهو حينما قال:- ( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:- وضع عن أمتي تسعة أشياء .. ) فلعل مقصوده من ( قال ) على ما هو الوارد في الحديث ، فلا تدل هذه على النسبة الجزمية.
وأما المقدمة الثانية فالجواب:- صحيحٌ أنَّ العقلاء يبنون على الحسّ ، لذلك تجد أنه إذا أخبرنا شخص بخبرٍ كما لو قال جاء فلان من السفر فهنا سوف نأخذ بخبره رأساً ولا نسأله بأنَّ هذا عن حس أو عن حدس ، أو قال ولد لفلان طفل فلا نسأله ونقول هل هذا عن حسٍّ أو حدس ، فالعقلاء يبنون على كون الإخبار هو دائماً عن حس ، فنحن نسلّم أصالة الحس العقلائية هذه ولكن هذا فيما إذا كان احتمال الحس احتمالاً معتداً به ، فإنَّ هذه الأصول العقلائية منشؤها السيرة العقلائية فيقتصر على القدر المتيقن ، والقدر المتيقن ما إذا فرض أنه كان تحصيل الحس شيء ميسور وممكن ولا بأس به ، وفي مقامنا احتمال الحسّ شيء ضعيف ، لأنه لو كانت هناك أسانيد للشيخ الصدوق لهذا الحديث لذكرها ، فعدم ذكره لها يورث في النفس شيئاً وأنه لا توجد طرق متعددة ، فالحكم بأصالة الحس هنا محل تأمل.