الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

40/05/26

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- أصل البراءة- مبحث الأصول العملية.

بيد أنَّ الشيخ العراقي(قده)[1] أشكل على الاستدلال بالآية الكريمة وقال:- إنه يمكن أن نقول إنَّ الآية الكريمة هي نظير ما رواه الشيخ الصدوق عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال:- ( خطب أمير المؤمنين عليه السلام الناس فقال: إنَّ الله تبارك وتعالى حدّ حدوداً فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تنقصوها واكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً [لها ][2] فلا تكلّفوها )[3] فالآية الكريمة تريد أن تبيّن هذا المضمون ، فهي تقول ﴿ لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها ﴾ و ( آتاها ) يصدق فيما إذا جعله في معرض الوصول ، فإذا فرض أنَّنا جزما بأنَّ تكليفاً لم يجعله في معرض الوصول فالآية الكريمة حينئذٍ تدل على البراءة ، أما إذا احتملنا أنه جعله في معرض الوصول لكنه خفي بسبب ظلم الظالمين فمثل هذه الحالة لا يمكن التمسّك بالآية الكريمة وعليه سوف لا تنفعنا.

فالشيخ العراقي(قده) يريد أن يقول إنَّ الآية الكريمة حينما قالت ﴿ لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها ﴾ يحتمل أنها تريد أن تبيّن هذا المعنى ، يعني جعل الحكم في معرض الوصول فإذا لم يجعله في معرض الوصول فلا تتكلّف أيها المكلّف ، يعني البراءة ، وهذا لا ينفعنا ، لأنَّ المفروض في موردنا أنَّ الله عزّ وجل جعل الحكم في معرض الوصول لكنه لم يصل إلينا بسبب ظلم الظالمين ، فلا ننتفع بالآية الكريمة.

والجواب:- إنَّ ما أفاده شيء وجيه فيما إذا كانت الآية الكريمة تعبر وتقول ( لا يكلف الله نفياً إلى ما آتا ) من دون ضمير ( ها ) ، فيصدق ( آتا ) إذا جعله في معرض الوصول ، أما بعد أن عبّر بـ( آتاها ) يعني أنَّ النسبة هكذا ( لا يكلف الله زيداً إلا ما آتاه ) و ( لا يكلف عمرواً إلا ما آتاه ) ... ، فإذا صار معها الضمير فهذا ظاهر في أنه يلزم أن يصل إلى المكلف.

فإذاً يوجد فرق بين المطلبين ، فما ذكره يتم فيما لو لم يكن ضمير ( ها ) مذكوراً ، أما بعد وجوده فظاهره أنه لابد أن يصل إلى كل مكلف وكان في معرض الوصول إليه بحيث لو فحص عنه لوجده فهنا يصدق ( آتاه ) ، أما لو فحص ولم يجد ولو بسبب ظلم الظالمين فلا يصدق آنذاك ( آتاها ).وبهذا ننهي حديثنا عن هذه الآية الكريمة ، وقد اتضح أنه لا بأس بدلالتها على البراءة ، ومادام قد تمت دلالتها فلا حاجة إلى ذكر بقية الآيات الكريمة ، لأنَّ الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل ذكر آيات أخرى ، وهذه الآيات الكريمة لا توجد فيها أبحاث علمية أما هذه الآية الكريمة ففيها أبحاث علمية دسمة فنقصر عليها ، وننتقل إلى السنًّة الشريفة.

السنًّة الشريفة:-

والأحاديث فيها متعددة ، ولعل أهم الأحاديث هو حديث الرفع ، ولعلنا نقتصر عليه ، وفيه كلام طويل ودقيق.والكلام في هذا الحديث يقع في عدّة نقاط:-

النقطة الأولى:- سند الحديث.

وهذا الحديث ورد بأكثر من طريق ، والذي يشتمل على فقرة ( ما لا يعلمون ) أربعة أحاديث ، أما بقطع النظر عن هذه الفقرة فلعل الوارد أكثر من أربعة ، ونحن نأخذ الأحاديث التي وردت فيها فقرة ( ما لا يعلمون ) ، وهي أربعة:-

الحديث الأول:- ما وراه الصدوق في خصاله وتوحيده عن أحمد بن محمد بن يحيى عن سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد عن حمّاد بن عيسى عن حريز بن عبد الله[4] عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفع عن أمتي تسعة أشياء الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق [ في الخلوة ][5] ما لم ينطق بشفة )[6] .

وسعد بن عبد الله من أجلة أصحابنا ، ويعقوب بن يزيد كذلك ، وحمّاد بن عيسى الجهني فهو غريق الجعفة ، وحريز بن عبد الله لا مشكلة فيه ، إنما المشكلة في أحمد بن محمد بن يحيى فهو لم يرد في حقه توثيق لكنه من مشايخ الاجازة ، وقد روى عنه الشيخ الصدوق(قده) والحال أنه لا يوجد توثيق واضح في حقه ، فإن بنينا على اعتبار شيخوخة الاجازة فلا مشكلة حينئذٍ ، وإن فرض أننا تأملنا من هذه الناحية كالسيد الخوئي(قده) فهنا سوف نقع في مشكلة ، والسيد الخوئي(قده) في مورد أو أكثر من تقريراته عبّر بالصحيحة ، ولكنه محل إشكال من هذه الناحية ، وإن تداركه في موارد أخرى ، فإذاً لابد من علاج هذا الأمر.

الحديث الثاني:- ما ذكره الصدوق مرسلاً عن البني صلى الله عليه وآله وسلم:- ( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وضع عن أمتي تسعة أشياء السهو والخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون والطيرة والحسد والتفكر في الوسوسة في الخلق مالم ينطق الانان بشفة )[7] .

الحديث الثالث:- ما رواه الكليني(قده) في الكافي عن الحسين بن محمد عن محمد بن أحمد النهدي رفعه عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رفع عن أمتي تسع خصال الخطأ والنسيان وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه والطيرة والوسوسة في التفكر في الخلق والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد )[8] .

وهذا الحديث مشكلته أنه يوجد فيه رفع - يعني ارسال - ، كما توجد مشكلة ثانية في سنده وهي وجود محمد بن أحمد النهدي حيث يصعب توثيقه كما سنبيّن.

الحديث الرابع:- أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن إسماعيل الجعفي عن أبي عبد الله عليه السلام سمعته يقول:- ( وضع عن هذه الأمة ست خصال الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه )[9] .

وهذا الحديث محل إشكال أيضاً من حيث السند كالثالث.

[1] نهاية الأفكار، العراقي، ج2، ص204.
[2] وهي موجودة في الفقيه ولكنها ليست موجودة في الوسائل.
[3] وسائل الشيعة، العاملي، ج27، ص175، ح68، ط آل البيت. من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج4، ص75.
[4] يعني السجستاني.
[5] هذا ما هو موجود في الوسائل ولكن الموجود في الخصال ( في الخلق ).
[6] وسائل الشيعة، العاملي، ج15، ص369، ابواب جهاد النفس، ب56، ح1، ط آل البيت.
[7] وسائل الشيعة، العاملي، ج8، ص249، ابواب الخلل في الصلاة، ب30، ح2، ط آل البيت.
[8] وسائل الشيعة، ج15، ص370، ابواب جهاد النفس، ب56، ح3، ط آل البيت.
[9] وسائل الشيعة، العاملي، ج23، ص237، ابواب الايمان، ب16، ح3، ط آل البيت.