40/05/22
الموضوع:- أصل البراءة- مبحث الأصول العملية.
وربما يشكل على هذا الجواب الثاني ويقال:- إنَّ هذا محل تأمل ، باعتبار أنَّ الحكم - الوجوب - هو حكم الله تعالى فكيف يتعلّق التكليف بفعل الله عزّ وجل ؟!! فإنَّ هذا لا معنى له ، إنما التكليف يتعلَّق بأفعال العباد لا بفعله عزّ وجل.اللهم إلا أن نقدَّر كلمة ( امتثال ) فيصير المعنى ( لا يكلّف الله نفساً بحكمٍ يعني بامتثال الوجوب أو بامتثال الحرمة إلا إذا آتاها ) فيرتفع الاشكال ، فإن الامتثال هو فعل العبد وتعلّق التكليف بفعل العبد هو المناسب للقاعدة.ولكن هذا التقدير خلاف الظاهر.فإذاً ما هو مطابق للظاهر لا يمكن إرادته ، وما يمكن إرادته هو مخالف للظاهر لأنه يحتاج إلى تقدير وقرينة.إلا أن يقول قائل:- مادام أحد المعاني الثلاثة هو التكليف - أي الوجوب - فحتماً يكون المقصود هو تقدير ( الامثال ) وإلا كيف يتعلّق التكليف بالوجوب أو الحرمة ، فحتماً يوجد تقدير امتثال ، ولا تقل هو مخالفٌ للظاهر ويحتاج إلى قرينة.
وجوابه واضح حيث نقول:- ثبّت العرش ثم انقش ، فأنت عليك أن تثبت أنَّ كلمة ( تكليف ) مرادة ، فإذا ثبت أنها مرادة جزماً فنقدّر كلمة ( امتثال ) ، ولكن المفروض أنها بعدُ لم يثبت أنها مرادة - اي تقدير كلمة الوجوب أي إرادة الوجوب أو الحرمة - ، ونحن نريد أن نثبته بالإطلاق ، والاطلاق لا قابلية له ، فنقتصر عل القدر المتيقن للآية الكريمة وهو المال أو المال مع الفعل ، أما التكليف فلا نقدّره ، لأنَّ التكليف بمعنى الحكم فيه محذور فلا يمكن اثباته بالإطلاق ، فالإطلاق إنما يثبت شيئاً إذا أمكنت إرادته من دون تقدير.
وهذه فائدة تسجّل في باب الاطلاق:- وهي أنَّ الاطلاق إنما يتمسّك به إذا لم يحتج إلى مؤونة ، أما إذا كان التمسّك بالإطلاق يحتاج إلى مؤونة قبليَّة بأن نقدّر كلمة ( امتثال ) حتى يمكن أن يكون التكليف مشمولاً للإطلاق ، فهنا الاطلاق لا يمكن اثباته مادام يحتاج إلى مؤونة ثبوتية.
وتوجد نكتة مفيدة:- وهي أنه قد يقول قائل لماذا لا يمكن التمسّك بالاطلاق في مورد الحاجة إلى مؤونة ثبوتية كما في موردنا ؟
والجواب:- إنَّ مستند الاطلاق هو السيرة العقلائية ، فالقضية قضية عقلائية وعرفية ولا يوجد دليل شرعي ، ونحن نشك في أنَّ العقلاء في هكذا مورد - الذي يكون التمسّك بالإطلاق يحتاج إلى مؤونة ثبوتية - هل يبنون على الاطلاق أو لا ؟ فلا أقل هو مشكوك وهذا يكفينا ، فهم جزماً يتمسّكون بالإطلاق إذا لم يحتج إلى مؤونة ثبوتية ، أما إذا احتاج إليها فلا يجزم بانعقاد السيرة العقلائية على التمسّك به.
إذاً اتضح لحد الآن أنَّ التمسك بالإطلاق شيء مشكل لإثبات أنَّ المقصود هو التكليف أيضاً ، وعليه فسوف لا نستفيد من الآية الكريمة.هذا وقد يقال:- إنه يوجد عندنا دليل يدل على أنَّ كلمة التكليف أو كلمة حكم مقدّرة ومرادة من كلمة ( ما ) بغير الاطلاق ، وهو رواية عبد الأعلى:- ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- ....... فهل كلّفوا المعرفة ؟ قال: لا على الله البيان " لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها " و " لا يكلّف الله نفساً إلا ما آتاها " )[1] .
وتقريب الاستدلال:- هو أنَّ عبد الأعلى سأل الامام عليه السلام هل كلفوا بالمعرفة فقال: ( لا على الله البيان ) ثم استشهد الامام عليه السلام بـ﴿ لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها ﴾ ، فالرواية واضحة في أنَّ المقصود من ﴿ لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها ﴾ يشمل التكليف وحيث إن المعرفة لا مثبت للتكليف بها فالتكليف بالمعرفة مرفوع بآية ﴿ لا يكلّف الله نفساً إلا ما آتاها ﴾ ، فنأتي بالرواية وهي تثبت لنا أنَّ هذه الآية الكريمة شاملة للتكليف ، وحينئذٍ يثبت بذلك المطلوب.
ولكن هذا ليس تمكسّاً بالآية الكريمة لوحدها ، بل هو تمسّك بالرواية ، وهذا لا يعدّ تمسكاً بالآية الكريمة ، والتمسَّك بالروايات سوف يأتينا ، فاجعلها في عِداد الروايات التي ستأتي.ونحن نقول:- إنَّ هذه الرواية لا تنفع ، لاحتمال أنَّ المقصود من المعرفة هي معرفة الله عزّ وجل بكنهه وبذاته وبحقيقته ، فالناس هل هم مكلّفون بأن يعرفوا الله تعالى بحقيقته وبذاته ؟ فالإمام عليه السلام يقول للسائل إنَّ هذا لا يمكن إلا أن يعرّف الله تعالى نفسه ويبينها ، أما إذا لم يبيّن ذلك ولا يعرفنّا إياه فلا نتمكن أن نعرفه ، فيحتمل أن يكون المقصود هو هذا ، وهو احتمال وجيه.
فإذاً لا يمكن التمسّك بهذه الرواية بعد ثبوت هذا الاحتمال الوجيه ، فإذاً هذه الرواية لم تنفعنا أيضاً.وهناك طريق آخر للجواب والتمسّك بالآية الكريمة من دون محذور وحاصله أن يقال:- إنه إما أن تكون كلمة ( ما ) الموصولة مستعملة في معانٍ ثلاثة ، أو هي مستعملة في معنىً واحد ، فإن قلت هي مستعملة في معانٍ متعددة - يعني في المال والفعل والتكليف - يعني أنَّ المراد هو المعاني الثلاثة ولكن لا بنحو الوحدة والجامع وإنما كل واحدٍ لوحده ، فهذا استعمال للفظ في أكثر من معنىً وهو لو جاز فهو يحتاج إلى مثبتٍ ، ولا مثبت له ، فلابد وأن ننتخب الاحتمال الآخر وهو أنَّ كلمة ( ما ) مستعملة في معنىً واحد يجمع هذه المعاني الثلاثة وتكون هذه المعاني الثلاثة مصاديقاً للمعنى الواحد لا أنها معانٍ متعدد ، فلا يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، وبناءً على هذا تكون الهيئة مستعملة في نسبةٍ واحد لا في نسب متعددة ، وبذلك سوف يرتفع أصل إشكال الشيخ الأنصاري(قده) ، ولا نحتاج إلى جواب الشيخ العراقي(قده) ولا إلى الجواب الثاني ، وإنما نقول مادام معنى ( ما ) واحد فالنسبة حينئذٍ تكون واحدة ، فيرتفع إشكال الشيخ الأنصاري(قده) من الأساس.
إذاً اتضح لحد الآن أنَّ الاستدلال بالآية الكريمة تام ولكن بهذا البيان.