40/05/19
الموضوع:- أصل البراءة- مبحث الأصول العملية.
الدليل الثاني:- ما ذهب إليه اليد الروحاني(قده)[1] ، وحاصله: إنَّ النكتة والوجه والملاك في حسن العقاب الدنيوي معلوم لنا ، يعني لو ارتكب شخص في الدنيا ذنباً فسوف نعاقبه وملاك العقوبة نعرفه وهو أحد أمرين:-
الأول:- حتى لا يعاود المذنب ارتكاب الذنب ثانيةً ، لأنه لو لم يعاقب فسوف يفعله ثانية وثالثة ، فعاقبه لأجل أن لا يعاود.الثانية:- أن نحول دون ارتكاب الآخرين للذنب ، فلعل الشخص الفاعل لا يرتكبه ثانيةً ولكن لو لم نعاقبه فسوف يرتكبه بقية الناس ولا يرتدعون ، فنحن نعاقبه ردعاً للآخرين.فإذاً نكتة العقوبة في الدنيا واضحة وهي أحد هذين الأمرين ، وأما ملاك العقوبة الأخروية فهو مجهول لنا ، ولا يمكن أن يكون هو أحد هذين ملاكاً ، لأنَّ الأول - وهو كون العقوبة لأجل أن لا يعاود ارتكاب الذنب - ففي الآخرة لا توجد معاودة ، وهي ليست دار تكليف ، فإنَّ التكليف فيها سوف يرتفع فمسألة يعاود أو لا يعاود سيّان ، وأيضاً ليس ردعاً للآخرين ، لأنَّ ردع الآخرين لا معنى له بعد أن فرض أنَّ الآخرة لا تكليف فيها ، فإذاً ما هو ملاك العقوبة عند الله تعالى لا نعرفه ، ومادمنا لا نعرفه فلعل الملاك هو سنخ ملاكٍ ثابت حتى في حالة احتمال التكليف ، فلا يمكن أن نقول يقبح العقاب بلا بيان فإنَّ نكتة ملاك العقاب الأخروي ليس معلوما لنا ، فلعل الملاك ثابت في غير حالة العلم - يعني في حالة الاحتمال -.وبذلك أنكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وبالتالي صار إلى منجّزية الاحتمال.ونحن نقول:- إنه بهذا المقدار الذي ذكره أقصى ما يثبت هو انكار قاعدة قبح القعاب بيان ، أما أنَّ الاحتمال منجّز فهذا لا يثبت ، بل الذي يثبت فقط وفقط هو أنَّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان - يعني بلا علم - ليست ثابتة ، لأنَّ الحكم بقبح العقاب بلا بيان فرع احراز الملاك والملاك لا نجرزه فالعقل يتوقف عن الحكم بقبح العقاب على التكليف بلا بيان ، أما أنه إذاً الاحتمال منجّز فهذا لا يثبت ، فإذاً لابد أن يكون مقصوده هو إنكار قاعدة قبح العقاب فقط ، لا اثبات منجّزية الاحتمال.
ويرد عليه:-أولاً:- إنه ذكر أنَّ الملاك في العقوبة الدنيوية هو أحد أمرين عدم المعاودة وتحذير الآخرين وهذان لا وجه لتسريتهما إلى العقاب الأخروي لأنَّ الآخرة ليست دار تكليف حتى يكون العقاب لأجل عدم المعاودة أو لأجل تحذير الآخرين.
ونحن نقول:- هناك ملاك ثالث يمكن أن نذكره وهو صالح لشمول كلا الدارين ، وذلك بأن يقال: إنَّ نفس المخالفة هي نحو هتكٍ واستهانةٍ بالمولى فيستحق العقوبة بعد الاعتراف بأنَّ المولى مولى ، فعدم امتثال أمر المولى نحو هتكٍ لحرمته فيستحق هذا المكلف حينئذٍ العقوبة ، وهذا ملاك ثالث حتى لو فرضنا أنَّ هذا المكلف لا يعاود ثانيةً أو أنَّ الغير لا يتجرأ على الفعل ، فإنه حتى مع الاحراز عقوبته شيء معقول وعقلائي ومقبول ، لأنَّ نفس عدم الامتثال هو نحو استهانةٍ بالمولى ، من قبيل الأب يطلب من ابنه المجيء بقدح ماء والولد لم يأت به ولم يعتنِ بأمر والده فهل للوالد الحق في أن يوبّخه لأنَّ نفس عدم المسارعة وعدم الاتيان بالماء هو استهانة بأبوَّة الأب ؟ نعم له ذلك ، فنفس الاستهانة بالمولى وعدم احترامه هو بنفسه ملاك مسقل ، فإذا قبلنا بهذا ملاكاً فهو سيّال بلحاظ الآخرة أيضاً ، إذ بالتالي الله عزّ وجل حينما أمر العباد وكلّفهم بتكاليف فهو له حقٌّ عليهم بلا إشكال فلا بد أن يطيعوه ، وعدم الاطاعة هو نحوٌ من الاستهانة به ، فهذا ملاك مستقل ، لا لأنه هو لا يعاود أو لأجل أن يحذر الآخرون حتى يقال إنَّ هذا لا معنى له في الآخرة ، بل لأجل أنه أهان المولى حيث تمرّد عليه ولم يمتثل فيجوز له أن يعاقبه حينئذٍ ، وهذا صالح للثبوت حتى في عالم الآخرة.إذاً هذا سنخ ملاكٍ يعم دار الدنيا ودار الآخرة ، وبناءً عليه يصح من المولى أن يعاقب.ثانياً:- إنَّ نقول: إنَّ الملاك هو لأجل أن لا يعاود ولا نحتاج إلى ملاك ثالث ، فلأجل أن لا يعاود لابد أن أدخل العقوبة عليه ، ولكن العقوبة يمكن أن تكون في الدنيا ويمكن أن أؤجلها إلى ما بعد الموت ، فنفس العقوبة سواء كانت الآن أو كانت في الآخرة هي نكتة لعدم المعاودة ثانيةً ، فنحن الآن لا نرتكب الذنب ثانية أو لا نرتكبه حتى في المرّة الأولى خوفاً من العقوبة الأخروية ، فالعقوبة الأخروية نعم الرادع عن المرّة الأولى وعن المرّة الثانية وعن المرّة الثالثة ، فالرادعية لا تتوقف على أن تكون العقوبة في الدنيا ، كلا لا يلزم ذلك ، بل ولو فرض أنه وعد بالنار ونحن نعلم بأنَّ الله تعالى لا يخلف الميعاد فبالتالي صارت العقوبة أخروية ، فنفس الملاك الأوّل - وهو رادعية المذنب - يصلح أن يكون ملاكاً للرادعية في الدنيا ولا يتوقف على أن يكون العقاب ثابتاً بلحاظ الدنيا.
ثالثاً:- إنَّ ما أفاده من أنَّ ملاك العقوبة في الآخرة ليس بمعلوم ، يعني بتعبير ثانٍ قد لا نقول بحسن عقوبة الظالمين في الآخرة ، يعني العقل يتوقف بحسن عقوبة الظالمين في الآخرة ، فيزيد بن معاوية ومعاوية وغير هؤلاء عقولنا تقف عن الحكم بحسن عقوبتهم وادخالهم النار ، وهذا مصيرٌ إلى مسلك الأشعري في تعطيل العقول عن الحكم بالحسن والقبح ولكن في دائرةٍ مصغَّرة وبشكلٍ من الأشكال.
فما ذهب إليه يتناغم بدرجةٍ مع مذهب الأشعري القائل بأنَّ العقل لا يحكم بحسن الأشياء وقبحها وإنما المدار على ما حسّنه الشارع فهو حسن وما قبّحه الشارع فهو قبيح ، وهذا تعطيلٌ للعقول في مسألة حسن العقاب بلحاظ الدار الآخرة ، وهو شيء يصعب الالتزام به.