40/05/07
الموضوع:- أصل البراءة- مبحث الأصول العملية.
وفي مقام الجواب نقول:- هل المقصود أنه إذا فحص بدرجة كافية بحيث أنه لاحظ بعض الأدلة التي تقول ( ما حجب الله علمه عن العباد فهو مرفوع عنهم ) ، وأيضاً فحص عن ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) ، فهل أنه بعد الاطلاع على هذا يحكم العقلاء بأنه لو ارتكب فلا شيء عليه بعد العثور على أمثال هذه الأدلة ؟ فجوابه: نحن نسلّم بهذا ، فهو معذورٌ ولكن هذا استناد إلى البراءة الشرعية وليس إلى البراءة العقلية ، وهو خروج عن محل الكلام.
وأما إذا فرض أنّ المقصود - كما ليس ببعيد - هو أنه لو فحص ولم يجد دليلاً بقطع النظر عن ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) فهو فحص عن التدخين أو شرب القهوة أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال فلم يجد ما يدل عليه بالخصوص أنه واجب أو أنه حرام فهنا يحكم العقلاء بأنَّ هذا معذور ويجوز له الارتكاب ؟ ولكن نقول:- إنَّ هذا أوّل الكلام ، ففي هذا المكان يوجد طابق سفلي ويوجد طابق علوي ونحتمل أنَّ الجهة الشرعية لا ترضى بالذهاب إلى الطابق السفلي أو الطابق العلوي فهل ننزل إلى الطابق السفلي أو نصعد إلى الطابق العلوي ؟ نحن لا نقول إنه حرام ، ولكن لا أقل نتوقف في ذلك بلا إشكال ، ولذلك أنت سوف تذهب وتسأل بأنه هل يجوز لي النزول إلى الأسفل أو الصعود إلى فوق وإذا لم تحصل على الجواب فسوف لا تنزل إلى الأسفل وتصعد إلى فوق ، فلا أقل تبقى في حالة ارتباك ، ولو فعلته فسوف تفعله عن أرتباك وتساهل أحياناً ، فإذاً ما ذكره محل تأمل.
الدليل الثاني:- ما ذكره صاحب المعتبر من أنَّ عدم الدليل دليل العدم ، فإذا لم يوجد دليل على وجوب الشيء فهذا دليل على عدم الوجوب.
وفي مقام الجواب نقول:- إنَّ هذا يتم فيما لو فحصنا جميع الأدلة ولم نجد ما يدل على الوجوب أو الحرمة فليس من البعيد أنه يكشف عن العدم وإلا لو كان لبان ، أما بعد أن ندخل في الحساب فرضية أنَّ بعض تراثنا قد ضاع واختفى ، وهذا الاحتمال موجود ، فلعل الدليل على وجوب هذا الشيء قد ضاع في جملة الأحاديث التي ضاعت ، فعليه لا يكون عدم الدليل دليل العدم.
الدليل الثالث:- وهو لابن زهرة ، حيث قال: إنَّ التكليف بغير المعلوم تكليفٌ بغير المقدور.
في مقام التعليق نقول:- إنَّ هذا أغرب ، فإنَّ وجوبه إذا لم يكن معلوماً كيف يصير فعله غير مقدور ؟!! ، بالتالي أنا لا أعلم بوجوبه ولكن يمكنني الاتيان به.
اللهم إلا أن يقصد أنَّ الاتيان به بقصد الامتثال لا يمكن ، إذ أنك لا تعلم بأنه واجب فكيف تأتي به بنيّة الامتثال الوجوبي ؟!! ، وأما إذا لم يكن مقصوده هذا فما ذكره واضح الوهن.وإذا كان مقصوده هو هذا فجوابه:- إنه يمكن الاتيان به بنية الامتثال غايته ليس امتثال الأمر الجزمي بل امتثال الأمر الاحتمالي ، فأنا أتي به برجاء المطلوبية وهذا يكفي ، هذا مضافاً إلى أنَّ هذا يتم فيما إذا كان الواجب الذي احتمله واجباً عبادياً ، أما إذا فرض أنه ليس بعبادي كالدعاء عند رؤية الهلال فإنه لا يلزم أن تنوي القربة بذلك أو فرض أنه من المحرّمات فأنَّ المحرّمات لا توجد فيها تعبدية وتوصلية بل المطلوب هو الترك فقط وأنت تستطيع أن تترك فلا يأتي ما ذكره.
الدليل الرابع:- ما ذكره الشيخ النائيني(قده)[1] ، وحاصله: إنه إذا فحص المكلف ولم يعثر على دليل قبح عقابه ، لأنَّ فوات الامتثال لم ينشأ من تقصير المكلف وإنما نشا من المولى ، فلا يصح القعاب وإنما يقبح ، لأن المكلف بعد أن فحص ولم يجد يكون ترك الامتثال مستنداً إما إلى عدم نصب المولى للدليل أو للاختفاء بسبب العوامل الزمنية كإخفاء الظالمين ، فبالتالي عدم الاتيان ليس ناشئاً من جهة تقصير المكلف وإنما هو ناشئ من المولى ، فيقبح عقابه.
ويظهر أنَّ السيد الخوئي(قده) استعان بهذا المطلب[2] حيث ذكره وقال إذا لم يصل التكليف إلى المكلف قبح العقاب على مخالفته لأنَّ فوت غرض المولى لم يستند إلى تقصير المكلف بل إلى عدم تمامية البيان من قبل المولى.
والجواب:- إنَّ هذا وجيه فيما إذا فحص المكلف وقطع بأنه لا يوجد دليل فهنا يمكن أن يقال إنَّ عدم الامتثال من قبل المكلف يستند إلى المولى لأنه لم يجعل دليلاً يصل إلى المكلف ، أما إذا فرضنا أنه فحص ولم يحصل له القطع بعدم وجود البيان إذ لعل البيان موجود ولكنه اختفى ، ففي مثل هذه الحالة هل يحكم بأنَّ هذا لم ينشأ من تقصير المكلف وإنما نشأ من تقصير المولى ؟ إنَّ هذا أوّل الكلام ، فإن المولى أيضاً لم يقصّر لأنه قد أصدر بياناً ولكنه اختفى ، فمادمت تحتمل ذلك فالعقل على الأقل يقول بالاحتياط والاتيان به لاحتمال أنه صدر البيان من قبل المولى ولكنه لم يصل إليك.
وهذا نظير ما لو فرض أنه توجد تعزية في بيت شخص من أقربائي وهو لم يخبرني بذلك وأنا فحصت عن ذلك ، فتارةً أقطع بعدم وجود تعزية عنده فنعم هنا سوف أكون معذوراً بلا إشكال والعقلاء يحكمون بكوني معذوراً ولا أُلام على ذلك ، أما إذا فرض أني لم أفحص فحصاً كاملاً لاحتمال أنه قد اتصل بي أو أخبر شخصاً بذلك ولكنه يوصل الخبر إليَّ ، فبالتالي أنا أحتمل وجود مجلس التعزية عنده ولكنه لم يصلني لسببٍ وآخر فهنا هل أكون معذوراً أو أنني احتاط في الذهاب لاحتمال أنَّ المجلس موجود ؟ إني احتاط في ذلك لاحتمال أنَّ المجلس موجود.فعلى هذا الأساس بعد فرض وجود احتمال البيان هل نقول إنَّ التقصير هو من المولى وليس من العبد ويكون العبد معذوراً ؟ إنَّ هذا أوّل الكلام ، أو لا أقل هو محل تأمل ، ولا أريد أن أجزم بأنه لا يكون معذوراً ، بل نقول هذه حالة توقف ، لأنه يمكن أن يقال هنا بأنه ليس بمعذور بل عليه الاحتياط مادام يمكنه ذلك.الدليل الخامس:- ما ذكره الشيخ النائيني(قده)[3] أيضاً حيث قال: إنَّ الأشياء بوجوداتها الواقعية لا تكون محرّكة للإنسان وإنما المحرّك له هو الوجودات العلمية ، فالأسد بوجوده الواقعي لا يحرّك نحو الهرب ، وإنما الذي يحرّك نحو الهرب وجوده العلمي ، فالوجود العلمي هو المحرّك للإنسان دون الوجود الواقعي ، فمثلاً وجود الدرس واقعاً لا يحرك الطالب نحو الخروج من الدار وإنما الذي يحركه هو الوجود العلمي به ، ونطبق هذا الكلام أيضاً بالنسبة إلى التكاليف فنقول إنَّ التكاليف بوجوداتها الواقعية لا تكون محرّكة للمكلف وإنما المحرّك له هو الوجود العلمي ، ومعه يكون العقاب على التكليف قبيحاً ، لأنه عقاب على ما لا يمكن أن يكون محرّكاً فالعقاب على مثله يكون قبيحاً.