40/05/06
الموضوع:- أصل البراءة- مبحث الأصول العملية.
أصل البراءةيقع الكلام تارة في الأصل العقلي ، وأخرى في الأصل النقلي ، والمقصود من الأصل العقلي ما يحكم به العقل ، والمقصود من الأصل النقلي ما تقتضيه الأدلة الشرعية ، ولم يفصّل الشيخ الأعظم(قده) بينهما وإنما جمعهما معاً وقال إنه عند الشك في أصل التكليف فالمدّعى هو البراءة ، ولكنه سكت لم يبيّن أي براءة هي ، وقد استدل عليها بالكتاب والسنَّة والإجماع وبحكم العقل والعقلاء ، والاستدلال بحكم العقل والعقلاء هو اشاره إلى البراءة العقلية ، فإذاً هو ذكر البراءة العقلية وحكم العقل بالبراءة كوجهٍ رابعٍ لإثبات البراءة من دون أن يفصّل بين البراءة الشرعية والبراءة العقلية ، بل استدل رأساً على البراءة بأربعة أدلة ، والأدلة الثلاثة الأولى تعطي البراءة الشرعية ، أما حكم العقل والعقلاء فيعطي البراءة العقلية ، وهكذا صنع من جاء بعده كالشيخ الخراساني(قده) في الكفاية والشيخ النائيني(قده) العراقي(قده) وغيرهم ، إلى وصلت النوبة إلى السيد الشهيد(قده) ففصَّل بينهما ، والأجدر هو الفصل حتى تتبيّن معالم البراءتين.ونحن نفصل بينهما الآن ، فيقع الكلام أوّلاً في البراءة العقلية ثم يأتي الكلام في البراءة الشرعية:-البراءة العقلية:-المقصود من البراءة العقلية هو حكم العقل بقبح القعاب بلا بيان ، فلا يوجد فرقٌ بين البراءة العقلية وقاعدة قبح القعاب بلا بيان ، فهما واحد ، وقد بنى الشيخ الأعظم(قده) أصوله على هذه القاعدة ، ولعله ليس هو الأول في هذا ، بل لا يبعد أنَّ الوحيد البهبهاني(قده) هو الذي بنى الأصول على قاعدة قبح العقاب بلا بيان - وهذا نبرزه على مستوى الاحتمال - في مقابل المدرسة الاخبارية التي بنت أصولها على الاحتياط.ونلفت النظر أيضاً إلى أنه ليس مقصودنا من وراء هذا الكلام أنَّ جذور قاعدة قبح العقاب بلا بيان لم تكن موجودة قبل ذلك في أذهان الأعلام ، بل لو تتبعنا كلمات السابقين فصحيحٌ أننا لا نرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ولكن توجد جذور تساعد وتلمّح وتتفاعل مع هذ القاعدة ، من قبيل كلام ابن زهرة الذي نقله الشيخ الأعظم(قده)[1] ، حيث ذكر أنَّ التكليف من دون علمٍ هو تكليف بما لا يطاق.
ونحن لا نوافقه على ذلك ، فهو ليس تكليفاً بغير المقدور ولكن هذا تلميح منه إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ولكن خانه التعبير ، ولكنه اعطى إشارة إلى هذه القاعدة وساعد الآخرين على تقديم بعض الاشارات عليها ، نقل الشيخ الأعظم(قده) عن الغنية وقال:- ( ثم إنَّ السيد ابو المكارم في الغنية أن لتكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق ) ، ومن الأعلام الذين لهم بعض الكلمات التي تصب في صالح قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو المحقق الحلي(قده) حيث ذكر عبارة وهي ( عدم الدليل دليل العدم ) ، فهذا يتفاعل مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فبالتالي كان ذهنهم يحمل هذه الفكرة وهي أنه من دون بيان التكليف يكون منتفياً ، ولكن اختلفت تعابيرهم عن ذلك ، وقد نقل الشيخ الأعظم(قده) هذا عنه في الرسائل[2] ، ومن هنا نفهم أنَّ قاعدة قبح القعاب بلا بيان كانت لها جذور قبل عهد الوحيد البهبهاني(قده).
كما أنه يمكن أن نقول:- كانت هناك جذور معاكسة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، يعني أن الأصل العقلي يصير عندهم هو الاشتغال ، يعني لا يقبح العقاب بلا بيان بل في حالات عدم البيات يلزم الاشتغال ، فهم ينكرون قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وهذا ما هو موجود في كلمات المفيد والشيخ الطوسي(قده) ، وقد ذكر الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل وجهين لإثبات أنَّ الأصل هو الاحتياط عند الاتجاه المقابل ، فهو بعد أن ذكر الدليل على أنَّ أصل هو البراءة وذكر دليل الاتجاه الثاني في الدليل الثاني وقال:- ( نقل عن الطائفة من الامامية أنَّ الأصل في الأفعال هو الحظر حتى يرد من الشرع خلافه )[3] .
فإذاً هم ينكرون قاعدة قبح العقاب بلا بيان بضرسٍ قاطع ، ثم قال:- ( ومع التنزّل فالعقل يتوقف عن الحكم بالإباحة أو بالحظر كما عليه الشيخان ) ، ثم نقل استدلال الشيخ في العدَّة على ذلك وهو ( إنَّ الاقدام على ما يؤمن لمفسدة فيه كالإقدام على ما يعلم فيه المفسدة ).
فإذاً هذه القاعدة ليست من القواعد المسلَّمة في المدرسة الامامية ، بل هناك من قبلها ، وهناك من لم يقبلها ، وبعضهم توقف فيها.هذه صورة مصغَّرة عن المسألة في كلمات أعلامنا في المدرسة الامامية ، وقد اتضح أنه يوجد رأيان الأوّل يرفض هذه القاعدة والآخر يقبلها.والشيخ الأعظم(قده) من الذين بنوا على هذه القاعدة ، وحينما أخذ يستدل عليها أخذها وكأنها قضية مفروغ عنها وسدَّ باب المناقشة ، قال(قده):- ( الرابع من الأدلة حكم العقل بقبح العقاب على شيء من دون بيان التكليف ويشهد له حكم العقلاء كافة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف بعدم إعلامه أصلاً بتحريمه )[4] .
وهكذا من جاء بعده ، فهذه القاعدة عندهم مسلَّمة عندهم بحيث لا يستدلون عليها ، فلاحظ الشيخ العراقي(قده) ومن بعده ، إلى أن وصلت النوبة إلى الشيخين النائيني والأصفهاني(قده) حيث حاولا الاستدلال عليها ، فشكّلا صورة دليلٍ على ذلك ، فالشيخ النائيني(قده) ذكر صورة دليل والشيخ الأصفهاني(قده) ذكر صورة دليل ، وسننقل ما ذكراه.ونلفت النظر إلى قضية:- وهي أنه حتى لو رفضنا هذه القاعدة فهذا لا يؤثر على الفقه شيئاً ، لأنَّ لبراءة العقلية إذا لم تكن ثابتة يوجد عندنا البديل وهو البراءة الشرعية ، لا أننا نصير إلى الاحتياط ، نعم الاخباريون حيث أنهم ينكرون البراءة الشرعية أيضاً ويأتون بأدلة شرعية على اثبات أنَّ الحكم هو الاحتياط فهنا يوثر ، أما نحن الذين ننكر قاعدة قبح القعاب بلا بيان لكننا نسلّم بالبراءة الشرعية فلا يترتب على ذلك خلاف عملي ، وبالتالي يكون الخلاف علمياً وليس خلافاً عملياً ، وهذه قضية ينبغي الالتفات إليها.
الأدلة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان:-الدليل الأوّل:- ما ذكره الشيخ الأعظم(قده) ، وهو حكم العقلاء بأنَّ العبد إذا فحص عن التكليف ولم يعثر على ما يدل عليه قبح عقابه.