40/04/23
الموضوع:- الفرق بين الأصل والأمارة - مبحث الأصول العملية.
الفرق الخامس:- أن يقال: إنَّ الفارق بينهما عقلائي وعرفي قبل أن يكون أصولياً ، وملاحظة الشواهد العرفية توضح ذلك ، فلو فرض أنَّي أردت الذهاب إلى مجلس فلان الذي كان لديه مجلس تعزية مرة واحدة في السنة مثلاً ، فإذا شككت هذه السنة هل يقيم مجلس التعزية هذه السنة أو لا فماذا أصنع في مثل هذه الحالة ؟ إنني سوف أسأل من الأقرباء الآخرين عن ذلك فلو أخبروني بأنه عقد مجلسه هذه السنة فسوف أرتّب الأثر وأذهب إليه ، ولو سألت منهم ولم يعلموا بذلك فماذا أصنع ؟ في مثل هذه الحالة أجري مقايسة فأقول إذا ذهبت ولم يكن هناك مجلس فسوف اتعب وأخسر أموالاً ، وهذا احتمال ، كما يحتمل أنه إذا كان عنده مجلس وقد فاتني فسوف يتأذّى هذا الرجل ، فهنا أجري مقايسىة بين المحتملين بين أذيته وبين خسارة المال والتعب ، ولعلّ الثاني أقوى فأصمّم على الذهاب ، ولعله الأوّل يكون هو الأقوى فأصمم على عدم الذهاب.
ونذكر مثالاً الآخر:- وهو أنه إذا كنت لا أدري أنَّ الضيوف يأتون لي في هذا اليوم أو لا فهل نُعدّ لهم الطعام أو لا ؟ فتارةً أسأل من هنا وهناك لاستعلام الحال ، فلو عملت بمجيئهم فسوف آمر الأهل بإعداد الطعام ، وإذا فرض أنه لا يوجد من يطلع على ذلك فأجري مقايسة بين أن أعدّ الطعام الذي فيه تعب وخسارة للمال وبين أن لا أطبخ ولكن لو جاء الضيوف فسوف أخجل منهم ، فهنا أجري مقايسة بين حفظ ماء الوجه وبين الخسارة والتعب ، وفي مثل هذه الحالة إذا فرض أنه يوجد شخص يخبرني بذلك فهذا سوف أعتمد عليه ، وهذا اعتمد عليه من باب قوة الكاشفية ، فخبره يكشف على أنهم يأتون بدرجة سبعين بالمائة أو أكثر أو أقل أو أحياناً يكون الكشف بدرجة مائة بالمائة إذا فرض أني أعلم بأنَّ هذا الشخص منضبط في خبره ، فهنا اعتمد عليه من ناحية قوّة الكاشفية ، وأما إذا فرض أنه لا يوجد مخبر فنجري مقايسة بين الاحتمالين وأقدّم هذا الاحتمال على ذلك الاحتمال ، ففي مثل هذه الحالة أقول للأهل على شكل حكم عام ( إنه في كل مرة من المرات إذا شككتم في مجيء الضيوف فأعدّوا الطعام ) ، فهنا هذا الحكم ليس ناشئاً من قوّة الكشف والاحتمال ، وإنما هو ناشئ من قوة المحتمل نفسه - أي قوةَّ المنكَشَف والمحتمَل إن صحّ التعبير - فإذاً الأوّل اعتمدت عليه من حيث قوة الكاشفية ، والثاني اعتمدت عليه من حيث قوة المحتمل والمنكَشَف وليس من ناحية قوة الاحتمال والكاشفية ، وهذا هو واقعنا العقلائي.ونفس الشيء نسحبه إلى الشرع فنقول:- إنَّ الشرع اعتمد على نحوين من الأدلة ، النحو الأوّل ما اعتمد عليه لقوة كاشفيته مثل الخبر ، ويصطلح عليه بالأمارة ، فالأمارة حكم ظاهري ، والحكم الظاهري هو حجية الأمارة وهو ناشئ من قوة الكشف أو قوة الاحتمال ، والنحو الثاني الذي اعتمد عليه الشارع إذا لم توجد أمارة فقد أسّس أصلاً عملياً وقال ( لك شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام ) ، ففي حجية الأصل هنا لم تلحظ قوة الكشف إذ لا يوجد كاشف وإنما من ناحية قوّة المحتمل ، فالمحتمل هو في نفسه أهم ، لأنه تخفيفٌ على البعاد ، فإنَّ قوة المحتمل تنشأ من أمورٍ في نظر الشارع ومنها التخفيف على العباد ، ولا تقل من أين أتت قوة المحتمل ؟ فأقول:- إنَّ هذا لا يهمنا ، فإنَّ هذه قضايا ترتبط بالمشرّع ، فالمشرّع إذا رأى أنَّ هذا أقوى فسوف يؤسس أصالة الحلّ حينئذٍ ، وإذا كان بالعكس فيؤسس صالة الاحتياط . فصح أن نقول إنَّ حجية الأمارة حكم ظاهري نشأ من قوة الكشف ، وحجية الأصل حكم ظاهري نشأ من قوة المحتمل في حدّ نفسه ، وهذا فارق عرفي عقلائي قبل أن يكون شرعياً. ولعل ما ذكره الشيخ الأعظم(قده) يدور في هذا الفلك ولكنه لم يوضحه بهذا الشكل ، وهو ما صار إليه السيد الشهيد(قده)[1] .
فإذاً هذا هو الفرق الصحيح.الأمر الثالث:- هل لوازم الأمارة غير الشرعية حجة أو لا ؟
المعروف بين الأصوليين أنَّ الوازم الأمارة حجة ، ولوازم الأصول العملية ليست بحجة وهي ما يعبّر عنها بالأصل المثبت والأصل المثبت ليس بحجة ، فلو فرض أنَّ شخصاً قال لي رأيت ولدك الذي غاب عنّي فترة طويلة من الزمن وانقطعت أخباره فحينئذٍ سوف أرتّب الآثار العادية ، فمثلاً أرتّب أنه قد نبتت لحيته أو أنه قد تزوج وما شاكل ذلك من الآثار العادية غير الشرعية ، فهنا قالوا إنَّ الخبر الدال على حياته كما هو حجة في اثبات حياته هو حجة في اثبات وجوب مساعدته للزواج وفي أنه نبتت لحيته وإذا كنت ناذراً بأنه إذا نبتت لحيته بالصدقة فسوف أتصدق ، فقالوا إنَّ آثار الأمارة حجة وآثار الأصل العملي ليست بحجة ، فلو استصحبت حياته فحينئذٍ هذه الآثار التي ذكرناها سوف لا نرتّبها ، أما إذا كان هناك خبر ثقة فسوف نرتّب الآثار.ولماذا تكون لوازم الأمارة حجة دون لوازم الأصل ؟ذلك لوجوه:-الوجه الأول:- ما ذكره الشيخ الخراساني(قده)[2] ، وحاصله: إنَّ الإخبار عن شيء إخبارٌ عن لوازمه.
وهذا الوجه ينحلّ إلى مقدمتين:-الأولى:- إنَّ من أخبر عن حياة الولد فقد أخبر عن نبات لحيته مثلاً.
الثانية:- إنه إذاً حصل عندي خبران خبر بحياته وخبر بنبات لحيته ، فنقول إنَّ مقتضى اطلاق حجية الخبر الشمول للأول والثاني معاً لا أنه يختص بالأوّل ، وبذلك يثبت المطلوب.
وقد قيل إنه يوجد من أشار إليه قبل صاحب الكفاية(قده) ، وهو الشيخ محمد تقي الأصفهاني(قده) صاحب هداية المسترشدين في حاشيته على المعالم.