40/01/26
الدليل الثاني:- التمسّك بمقبولة عمر بن حنظلة ، وهي من حيث السند فقد رواها محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة ، جميع السند لا مشكلة فيهم إلا عمر بن حنظلة حيث لا يوجد في حقه توثيق واضح ولكن الأصحاب تلقوا روايته بالقبول الحسن فلذلك سميت بالمقبولة ، وهي ورادة:- ( في رجلين من أصحابنا تنازعا في دين أو ميراث فتحاكما إلى رجلين اختلفا للاختلاف فيما استندا إليه من حديث ، فقال عليه السلام:- ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه وإنما الأمور ثلاثة أمر بيّن رشده فيتبع وامر بيّنٌ غيه فيجتنب وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله ورسوله .... ).[1]
وبادئ ذي بدئ قد يقال إنَّ هذه الرواية واردة في الشهرة الروائية ونحن كلامنا في الشهرة الفتوائية دون الروائية ، لأنَّ الامام عليه السلام قال:- ( ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه ) يعني الحديث المجمع عليه عند أصحابك ، ( ويترك الشاذ النادر ) يعني الحديث الذي هو ليس بمشهور عند أصحابك ، فالنظور هو الشهرة الروائية وليس الشهرة الفتوائية ، فإذاً كيف نتمسك بهذه الرواية المقبولة ؟!!
من هنا احتجنا إلى تقريب ، وهذا التقريب مركّب من مقدمتين ، ولولا هذه النكتة لم نحتج إلى تقريب:-المقدمة الأولى:- إنَّ الرواية قالت:- ( فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه ) ، والمقصود من المجمع عليه هنا هو المشهور وليس هو المجمع عليه بالمعنى الحقيقي ، وتوجد قرينة على ذلك ، وهي أن الرواية قالت:- ( ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ) ، ثم قالت مباشرةً ( فإنَّ المجمع عليه ) ، وهي لا بد أن تعبّر وتقول ( فإنَّ المشهور ) ولكنها عبّرت بـ ( المجمع عليه ) ، فهذا يدل على أنَّ كلمة المجمع قصد منها المشهور بهذه القرينة.
المقدمة الثانية:- نقول إنَّ التعليل يعمم ، فحينما يقال ( لا تأكل الرمّان لأنه حامض ) فصحيحٌ أنَّ المورد هو الرمّان ولكن بالتعليل نستفيد أنَّ كل حامض لا تأكله ، وهنا أيضاً كذلك ، فصحيحٌ أنَّ مورد التعليل هو المشهور بالشهرة الروائية لأننا فسّرنا ( فإنَّ المجمع عليه لا ريب ) يعني فإنَّ المشهور الروائي لا ريب فيه ، ولكن التعليل يلغي خصوية المورد ويعمّم ، مثل لا تأكل الرمّان فإنّ المورد هو الرمّان ولكن بقرينة ( حامض ) نتعدّى إلى كلّ حامضٍ وإن لم يكن رمّاناً ، فهنا أيضاً كذلك نتعدّى إلى كل مشهور وإن لم يكن في باب الرواية ، ومن المشهور الشهرة الفتوائية ، فبعموم التعليل سوف يثبت أنَّ الشهرة الفتوائية حجة.
والجواب:- إن كلتا المقدمتين قابلة للمناقشة:-
أما الأولى:- فنقول إنَّ كلمة مشهور في قوله عليه السلام ( خذ بالمشهور ودع الشاذ النادر ) لابد أن تفسّرها بالمشهور الروائي ، أي ما ذهب إليه الأكثر ، ونحن نقول:- إنَّ هذا اصطلاح أصولي لا تحمّله على الرواية ، ولكن نحن نفسّر المشهور بتفسير ثانٍ ، فنحن في العرف حينما نقول هذه قضية مشهورة يعني أنها قضية واضحة ، فتأتي الشهرة لغةً وعرفاً بمعنى الوضوح ، فالأمر الواضح البيّن يقال عنه مشهوراً ، وهذا موجود في استعمالاتنا ، ولا يراد به ما قال به الأكثر في مقابل النادر فإنَّ هذا مصطلح علمي ، وتوجد قرينة على أنَّ المقصود هو الواضح وهي التقسيم الثلاثي الوارد في الرواية بعد ذلك حيث قالت:- ( إنما الأمور ثلاثة ، أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله وإلى رسوله ) ، فالمشهور الذي تحدثت عنه الرواية وقالت ( خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر ) يدخل تحت أي قسم من هذه الأقسام الثلاثة ؟ فهل يدخل تحت ( بيّن غيّه ) فإنَّ هذا لا معنى له ، فإنَّ الامام يأمر بالأخذ بالمشهور فكيف يدخل تحت هذا ؟!! ، وأيضاً لا يدخل تحت ( أمر مشكل يردّ علمه ...) لأنَّ هذا سوف يحصل فيه توقّف أما الامام عليه السلام فهو يقول خذ بالمشهور ، فإذاً لابد أنَّ يدخل المشهور تحت القسم الأوّل وهو ( أمر بيّن رشده ) يعني واضح رشده ، فإذاً لابد أن نفسّر المشهور بهذا المعنى لا بمعنى ما ذهب إليه الأكثر ، وإلا سوف لا يصير من مصاديق ( بيّن رشده ) ، وهذه قرينة جيدة على كون المقصود من المشهور هو الأمر الواضح.
إن قلت:- إذا كان المقصود هو هذا المعنى فكيف فرض الشهرة في كلتا الروايتين حيث قالت الرواية:- ( قلت:- فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات ) ، فإذا كان الفرض أنهما مشهورين هكذا فكيف يكون الخبران معاً مشهورين ؟!
قلت:- إنَّ الشهرة بهذا المعنى - أي بمعنى الوضوح - يمكن أن تثبت في كلا الخبرين ، يعني أنَّ هذا الخبر الذي استند إليه هذا القاضي مشهور بمعنى أنه واضح بين الأصحاب ، وذاك الخبر أيضاً وضاح بينهم ولا مانع في ذلك.
نعم الذي لا يمكن أن تكون في كلا الطرفين هي الشهرة الفتوائية ، يعني لا يمكن أن تكون الفتوى الأولى مشهورة وكذلك الفتوى الثانية مشهورة أيضاً ، لأنه لا يمكن اجتماع فتويين من هذا القبيل ، لأنه سوف يصحل التناقض ، يعني بعبارة أخرى يقولون هذا الشيء حلال وأيضاً يقولون هذا الشيء هو حرام وهذا غير ممكن ، أما في الرواية فلا مشكلة ، فهذه الرواية مشهورة يرويها الأصحاب كلّهم وتلك الرواية مشهورة يرويها الأصحاب كلّهم ، فنحن لا نفسّر المشهور بمعنى ما عليه الأكثر وإنما نفسّره بالأمر الواضح ، فالاستدلال سوف ينهدم من أساسه.وأما المقدمة الثانية:- فهي باطلة أيضاً ، فأنت قلت إنَّ التعليل يدل على التعميم ، ونحن نقول:- نحن نسلّم أنَّ العلّة تعمم ولكن ما هي العلّة ؟ فإنَّ الرواية تقول ( فإنَّ المشهور لا ريب فيه ) فهل العلة هي ( لا ريب فيه ) أو هي ( المشهور ) ؟ فإذا كانت العلة هي ( المشهور ) فنتمسّك بعموم العلّة ، أما إذا كانت العلة هي ( لا ريب فيه ) فنتمسّك بها حينئذٍ ، والمقصود في موردنا ما هو ؟ هو كون المشهور لا ريب فيه ، فالعلّة هي أنه ( لا ريب فيه ) ، فالذي يثبت هو أنَّ كلّ شيءٍ لا ريب فيه هو حجة ، لا أنَّ كل مشهورٍ هو حجة .
فإذاً لا ينفعك عوم التعليل ، لأنك تصورت أنَّ العلّة هي كلمة ( المشهور ) والحال أنَّ العلة هي ( لا ريب فيه ) ، فغاية ما نستفيده آنذاك هو أنَّ كل شيءٍ لا ريب فيه لابد أن تأخذ به ، وهذا لا ينفعك ، فإذاً هذا الدليل باطل.